ازدهار العلوم الإسلامية
فالواقع أن تلك الأجزاء من الاتحاد السوفييتى التى دخل الإسلام إليها قد أنجبت أعداداً من الفقهاء والأئمة الذين مضى ذكرهم عبر التاريخ -ويظل يمضى- ما يندر أن تجد مثيلا له بين عدد من دول المسلمين وبلادهم.
ولا نعتقد أن ملسماً فى العالم أجمع يجهل صحيح البخارى الذى يعتبر حتى اليوم المرجع الأول فى الحديث الشريف، لقد ولد صاحبه الإمام محمد بن اسماعيل البخارى فى بخارى عام 194 هجرية حيث درس علوم عصره وخاصة ما أتيح له من الحديث الشريف، ولكنه خرج من بخارى حاجا تصحبه أمه وأخوه حيث توفى الأخير فى مكه المكرمة ، بينما رجعت أمه إلى وطنها، بقى هو فى المدنية المنورة وشرع فى تأليف كتابه "الجامع الصحيح" بين القبر وروضه رسول الله صل الله عليه وسلم، فأتمه على مدى 16 عاماً، ثم عاد إلى بلاده، ومعه هذه الثروة الواسعة من الحديث وتفسيره على يد علماء الحرمين الشريفين، وقام على تدريسها ببلاده حتى ذهبت الأقوال بأنه قد بلغ عدد من تلقوا منه الحديث الشريف تسعين ألف شخص، وقد تتلمذ على يديه العديد من العلماء المشهورين فى منطقة ما وراء النهر قد يذكر منهم الإمام الترمذى وأبو الحيثم كليب الشاشى (نسبة إلى طشقند)، وأدى جهده الكبير هذا إلى أن ينتشر فى تلك المنطقة العديد من الكتاب فى الحديث وتفسيره، ونقد رواته، وتصحيح الرواية، وهكذا.
والمسلمون فى بقاع الأرض يعرفون كذلك الحاج محمد بهاء الدين النقشبندى الذى ولد فى قرية قصر عرينون ودرس فى بخارى وحج مرتين إلى مكة المكرمة والمدينة، والذى أسس اتجاهاً جديداً، وطريقة فى العبادة أمكن أن تجذب إليها العديد من المريدين والأتباع فى آسيا الوسطى وتركيا والبلدان العربية والهندستان وأندونيسيا.
أما الحكم الترمذى فصاحب عدد من الكتب الدينية الهامة، من بينها كتابة المشهور "نوادر الأصول".
أما سميه أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذى فمحقق مشهور للحديث، ومؤلف كتاب "الجامع" الشهير، ويعتبره المسلمون فى بقاع الأرض كلها أقرب مفسرى الحديث إلى محمد بن اسماعيل البخارى.
ومن بين أبناء تلك المناطق سعيد على الهمزانى مؤلف العديد من الكتب الدينية والتى يلاقى منها كتابيه "روضه الفاتحية"، "تهافت الملوك" أوسع الانتشار وكثير الرواج بين الدارسين فى حقول المعرفة الإسلامية.
وسوف يمضى بنا الحديث طويلاً إذا ما نحن عددنا كل العلماء الجهابذه الذين أنجبتهم تلك البلاد، فالكتابة عنهم وعن إنجازاتهم العلمية فى مجال العقيدة الإسلامية إنما تحتاج إلى مجلدات عديدة، ولكن قد نضيف إلى من سبق ذكرهم علماء آخرون لهم شهرتهم وقدرهم المعلى مثل الإمام أبو حفص الكبير البخارى وكتابه عن الفقه الحنفى، وعلى بن أبى بكر برهان الدين المرغيثانى صاحبالهدايه فى الفقه الحنفى، وعبد الله بن مبارك المرزى ذو المؤلفات العديدة فى الفقه والحديث، ومحمد بن بشار اليتكنى وعهد بن حميد الكيشى، وأبو البركات النسفى مؤلف "مدارك التنزيل" والإمام الزمخشرى مؤلف "الكشاف" وأبو الليث السمرقندى، والإمام الزاهد السمرقندى.
ولم يقتصر الجهد على كتب الحديث والفقه بل امتد إلى اللغة العربية ذاتها، حيث برز العديد من العلماء فى هذا المجال من أبناء تلك المناطق، لعل من أهمهم أبو بكر محمد بن اسماعيل المشهور بالقفال الشاشى (أى الطشقندى نسبة إلى طشقند) الذى لا يزال قبره يزار حتى اليوم من قبل الوفود العديدة من أنحاء العالم الإسلامى والعربى، وما زال العلماء يعلقون الشروح والحواشى على كتبه وإنجازاته العلمية.
وكان من أثر انتشار تعاليم الإسلام والحرص على الصلة بالبلاد العربية مهبط الرسالة السماوية، أن انتشرت فى تلك البلاد كثير من ألفاظ اللغة العربية خاصة تلك التى ترتبط بمعانى إسلامية فتراهم هناك وحتى اليوم، ينطقون العديد من الكلمات العربية ويستعملونها مثل عيد الفطر وعيد الأضحى والصدقات ومولد النبى وليلة القدر وقارئ بمعنى مقرئ مجيد للقرآن، وحافظ بمعنى من حفظ القرآن وأجادة، وقاضى ويقصد بها المأذون أو رجل الشرع فى المنطقة -وهكذا.
لقد أنجبت مناطق آسيا الوسطى والقوقاز والفولجا -بالإضافة إلى أئمة العقيدة المذكورين -علماء وفلاسفة وفلكيون وأطباء وشعراء طبقت شهرتهم الآفاق مثل النظامى، والخوارزمى، والفارابى، والفردوسى، والبيرونى، وابن سيناء، وأولوج بيك، وفيزولى، وناصر خسرو، وعمر الخيام، ونفوا، وتوسى وغيرهم عديدون، فقد كان أبو بكر بن محمد زكريا الرازى أول من ألف فى الطب كتابة المشهور "الحاوى" والذى يقع فى أربعين مجلداً، وكذلك كتابة عن "الأغذية"، أما أبو على بن حسين الشهير بابن سيناء فقط ترجم كتابه "القانون فى الطب" إلى جميع اللغات الرئيسية فى العالم، ذلك بالإضافة إلى أبحاث أبو الريحان البيرونى فى الفلك والرياضيات والجغرافيا، مؤلفات هؤلاء جميعاً لم ينقص قدرها أو أهميتها حتى يومنا هذا رغم التقدم العلمى العظيم، وما زالت تدرس باهتمام بالغ فى عديد من المؤسسات العلمية فى العالم.
العقيدة تزدهر تحت ظلال الحرية
لعل تلك الواقعة التى أوردناها من دعوة أمير مناطق الفولجا لعلماء الإسلام والاستماع إليهم ثم الإيمان بما أتوا به دليل حى على جو الحرية -حرية الكلمة والعقيدة- الذى صاحب الفترات الأولى لإنتشار الإسلام فى تلك البلاد البعيدة، والذى كان من آثاره تلك النهضة الواسعة فى العلوم الدينية والدنيوية عامة، والتى أثمرت هؤلاء القدماء عامة، والتى أثمرت هؤلاء القدماء الفطاحل فى علوم الفقة والحديث، أو علوم الطب والكمياء والفلك والرياضيات والفلسفة والشعر.
ولكن المناطق التى يسكنها المسلمون فى الاتحاد السوفييتى كانت بحكم موقعها الجغرافى مطمعاً للعديد من الفاتحين، فآسيا الوسطى كانت الطريق إلى الشرق والهند والصين، كما أن القوقاز هو معبر بلاد روسيا الباردة إلى الجنوب الدافىء، وتمثل مناطق الفولجا واحدة من أهم مناطق الثروة الطبيعية فى شرق أوربا، ولهذه الأسباب فلم يكن ممكناً أن تظل الدول الإسلامية التى أقيمت فى تلك البلاد قوتها الأولى، خاصة وقد لعب ضعف الخلافة الإسلامية سواء فى بغداد أو فى القسطنطينية دوراً كبيراً فى تفكك أوصال الأمبراطورية الإسلامية وتحويلها إلى عديد من الدويلات الضعيفة.
ولذلك فقد تعاقب على آسيا الوسطى عديد من الدول مثل سوفديان وبشكيريا، ثم الفرس، فالأسكندر الأكبر، يتلوه الأتراك، ثم فى النهاية العرب عند دخول الإسلام، وبدأ حلول الظلام على تلك البلاد بهجوم جيوش التتار بقيادة جنكيزخان الذى أعمل وقومه الدمار والنهب حيثما حلت جيوشهم، إذ خربت عشرات المدن، وأخضعت بحد السيف أعداداً كبيرة من المؤمنين ودمرت المئات من المعابد المقدسة، وعزمت على تدمير مدينة بخارى برمتها.
ولربما أن عصر تيمورلنك فيما بعد عصراً من الأزدهار وبلوغ الإسلام كامل قوته هناك، ولكن قسوته واضطهاده للشعب من ناحية، ووقوع السلطة فى يد الجهلاء الذ يمثلون الغاشمة أدى فيما بعد إلى توقف الأزدهار فى كل العلوم والفنون، إلى حد أن يقتل المتآمرون عالماً مشهوراً هو أولوج بيك مؤسس أكبر مرصد فلكى فى العالم فى ذلك الوقت، وقد استمر حكم التيموريين فى آسيا الوسطى لفترة طويلة، ولكن ظلت الدولة فى اضمحلال.
وصارت آسيا الوسطى التى تمزقت أوصالها بعد ذلك إلى إمارات عديدة، مسرحاً لحروب طاحنة ومنازعات شديدة عانى منها دينها الأمرين، وأخذ كل أمير مدفوعاً بصالحه الشخصى ينهب الشعب ويعمل على إبادته، واتسع نطاق النزاع القومى والاضطهاد الدينى واتخذ صورة مروعة فقد أقسم الأمير أمام كولى عند فتح طشقند أنه سيستمر فى وحشيته حتى تبلغ دماء سكان المدينة ركاب سرجه.
وفى النهاية وقعت آسيا الوسطى تحت حكم القيصرية.
أما أذربيجان، تلك الدولة العريقة والتى استطاعت أن تعقد اتفاقاً سياسياً ومعاهدة عدم اعتداء مع الإسكندر الأكبر، فقد دخلها العرب كما سبق أن أشرنا فى القرن السابع الميلادى، وتكونت بها دولة إسلامية سرعان ما ارتبطت بعد ذلك بالحكم الإسلامى فى بلاد فارس وإن ظل لها استقلالها، ولكن ضعف الخلافة الإسلامية بعد ذلك أدى إلى تفتت تلك الدولة إلى عدد من الدويلات والإمارات الصغيرة الأمر الذى جعله شيئاً ميسوراً أن تستولى عليها روسيا القيصرية وتفرض سلطانها عليها فى عام 1723 ميلادية.
الإسلام فى ظل القيصرية
وقعت كل المناطق الإسلامية تحت حكم القيصر، وقد كانت عندئذ دولا مضمحلة أو إمارات متحاربة مفتتة، وبالتالى فقط استطاعت القيصرية أن تفرض سلطانها كاملا على تلك البلاد، وأن تجعل منها مجرد دويلات توابع خاضعة للدولة الروسية الكبرى وفى حكم مستعمراتها.
وقد كان النظام القيصرى يستند إلى الكنيسة الأوثوذكسية مما جعلها فى وضع امتياز خاص، تعمل الدولة على حماية مصالحها، وتنفق الأموال الطائلة لتدعيمها، وتعاونها قدر الاستطاعة فى محاربة الديانات الأخرى وعلى الأخص بالإسلام واليهودية والبوذية، وأصبح الطريق إلى مناصب أجهزة الدولة سواء العليا منها أو الثانوية، وإلى المدارس الحكومية بهدف التعليم، مسدوداً أمام غير الأورثوذكس، وانتشرت ملاحقة الأفراد على أساس دينى، وبلغ من سلطان الكنيسة إن لم تقتصر الملاحقات على اتباع الديانات الأخرى، بل على كل من رفض أى طقوس أو قواعد تفرضها الكنيسة الأورثوذكسية، إلى درجة أن يعتبروا هراطقة ويساموا أشد أنواع العذاب، ولعل المثال على ذلك واضح فى طائفة ما زالت تسمى حتى اليوم فى كندا "دوخوبورى" من الذين اضطر آبائهم فى مطلع هذا القرن إلى مغادرة روسيا بسبب الاضطهادات الدينية.
ولأن الحكم فى جوهرة كان حكماً استعمارياً هدفه تسخير الشعوب المستعبدة لصالح السلطة المستعمرة، فقد كان نصيب القوميات التى تعتنق الإسلام هو الاستغلال الاقتصادى والتأخر الاجتماعى والقومى، وسار الاستغلال الاقتصادى جنباً إلى جنب مع مختلف مظاهر التأخر، ولأن من سياسة الاستعمار دائماً "فرق تسد" فقد سعت الإدارة القيصرية إلى بذر المنازعات بين الشعوب المسلمة، واجتهدت فى أن تثير الشقاق العميق بين الشيعة والسنة.
ويمكن أن يذكر على سبيل المثال سياسة القيصر تجاه التتار، فقد أجبر مئات الألوف منهم على اعتناق المسيحية سواء بالقوة أو التهديد أو الخداع أو الضغط الاقتصادى، وحرم على المسيحيين منهم أن يعيشوا فى نفس المناطق التى يعيش فيها التتار المسلمون، وبينما كان المسلمون منهم يستعملون الأبجدية العربية، فرض على المسيحيين استعمال الأبجدية الروسية، وكانت نتيجة ذلك وغيره أن تدعمت الفوارق فى طريقة الحياة والعادات بين قسمى التتار، المسيحى والمسلم، على مدى السنوات، لا لصالح القومية، ولكن فى صالح الحكم القيصرى.
ولم يكن الإسلام والمسلمون فى آسيا الوسطى أسعد حظاً من التتار، فقد حولت القيصرية بلادهم إلى مستعمرة داخلية، تطأ فيها حقوق وعادات الشعب، وتنظر إليه على أنه شعب من الدرجة الثانية، ولم تتحقق له حرية الضمير طوال الحكم القيصرى، فقد وضعت المدارس تحت رقابة صارمة وحرم فيها تدريس أى علوم دينية، كما روقبت بشدة كل الجوامع وأماكن العبادة وذهبت القيصرية إلى أبعد من ذلك إذ سعت فى كل المراكز الدينية الإسلامية فى بخارى وسمرقند وكوكند، لإفراغ الدين من كل دعوة إلى الإحساس القومى، وأن توقع بينه وبين كل دعوة تقدمية فى ذلك الحين، ويقول المفتى الحالى ضياء الدين خان بن إيشان بابا خان فى مقدمته لكتاب إسماعيل البخارى "الأدب المفرد" إن نظره إلى تاريخ المسلمين فى آسيا الوسطى خلال القرون الثلاثة الأخيرة توضح أن الإسلام صار أداة فى يد أمراء الإقطاع الأغنياء بحيث قد حولوا الدين إلى أداة لفرض سلطانهم وللكسب، وتحول عدد من رجال الدين إلى أدوات طيعه فى أيديهم، لقد ساعد هؤلاء على نشر اتجاه انعزالى إلى حد أن تناسوا القرآن والحديث، ودعموا الانقسام بين المسلمين إلى درجة أن المسلمين هناك كانوا ينظرون إلى اتباع مدارس مذهب السنين (فيما عدا الحنفيين) كهراطقة، وظهرت دعوات إلى أنه لا مجال لأى تفسير أو اجتهاد فى القرآن، وأن الباحثين القدامى قد أوفوا كل شئ حقه، وما على المسلمين إلى أن يقرأوا ما كتب الأوائل وأن يحفظوه فحسب.
وتطرفوا فى دعوتهم تلك إلى درجة الاتهام بكل أنواع الذنوب لأى مسلم اتجه -تحت ضغط الظروف التى يعيشها من قهر وإرهاب- إلى دراسة المعانى التى يفرضها القرآن والحديث للحياة.
****
هذا استعراض سريع لدخول الإسلام أراضى الاتحاد السوفييتى، والذى يرجع إلى عهد الخلفاء الراشدين الأول والصحابة، ثم تطوره فى تلك البلاد، والذى يمكن أن يلاحظ منه أن الإسلام قد شاهد هناك نفس ما شاهده فى معظم البلاد الغسلامية على مر العصور من ازدهار على يد العديد من الباحثين والمدققين فى أجواء من الحرية والسماحة التى يدعو إليها الدين، كما تعرض إلى التأخر والاضطهاد والملاحقة حيث ضعف شمل المسلمين وتفرقت كلمتهم وسيطر عليهم المستعمر، يسخرهم لصالحه، ويضرب على كل دعوة إلى الحرية، وكل تطلع إلى الاستقلال القومى، ملاحقاً الدعوة الدينية ذاتها كلما كان فيها ما يزكى هذه المشاعر.
****
وإذا كانت ظروف روسيا القيصرية قد وصلت بالمسلمين إلى الحد الذى أوجزنا الإشارة إليه، فماذا كان موقفهم من الثورة الاشتراكية، وما الذى كان عليه موقفها منه، ذلك ما نرجو الإجابة عليه فى الفصول التالية.