أهداء

الأهـــداء
 إلى أرواح الذين سقطوا فى المعارك ليزيدوا من أرباح تجار الحروب.
إلى كل إنسان ضللوه بزخرف القول فحمل السلاح وراح يقتل نفسه أو يقتل أخاه الإنسان، لصالح الشيطان.
إلى الذين قالوا: ربنا الله: ثم استقاموا.
يوسف صديق
27/8/1972

مقــدمـــة

مقـدمــة 

لما انتهت الحرب العالمية الأولى -كان المنتصرون كلهم من الدول الرأسمالية- وكانت البشرية قد اكتوت بنيرانها وويلاتها ما جعلها تفكر فى وضع نهاية للحرب رفقاً بالإنسانية والحضارة -فأنشأت منظمة عالمية وكل إليها هذا العمل وهى التى عرفت باسم "عصبة الأمم".
ولما كان عبء الحرب يقع بكاملة على أكتاف الدول الصغيرة المستعمرة المغلوبة على أمرها فلم يمض ربع قرن إلا وكانت أطماع الدول الرأسمالية قد تحركت وألهيت نيران الحرب العالمية الثانية.
وكانت الحرب العالمية الثانية فتكاً وتدميراً غير أنها انتهت نهاية مخالفة -فقد كان بين المنتصرين عنصر جديد هو "الاتحاد السوفييتى" رافع لواء الاشتراكية- المذهب الجديد الذى يقوم على (عدالة التوزيع) وإحلال التعاون والحب بين الشعوب محل التنافس والتانحر- وتنادى بافشاء السلام على الأرض، وترفض الاستغلال الذى هو الحجر الأساسى فى صرح الرأسمالية.
وأحست الرأسمالية منذ اللحظة الأولى لقيام الدولة الاشتراكية الأولى على الأرض -بخطورتها عليها- فحاصرتها وحاولت القضاء عليها فى مهدها -ولكن لما كانت الاشتراكية تحمل بين طياتها أسباب النجاح والبقاء- فقد نجحت فى طرد خصومها وبقيت البشرية من الرق والعبودية.
ورغم حداثة سن الاشتراكية عند اندلاع نيران الحرب الثانية إلا أن قهر النازية لم يكن ممكناً بدونها -ورغم الخلاف والتناقض العقائدى فقد تم التحالف- الذى عبر عنها "تشرشل" (بالتحالف مع الشيطان).
وتحقق ما كانت تخشاه الرأسمالية من خطورة الاشتراكية عليها -فقد خرج الاتحاد السوفييتى من الحرب أشد بأساً وأعظم قوة، وكانت الحرب فرصة طيبة لإثبات سلامة المذهب الاشتراكى وأفضليته، وبشرت بأن المجتمع الاشتراكى هو الثوب الجديد الذى لا بد للعالم أن يستقبل به القرن الحادى والعشرين.
وأعادت الإنسانية الدامية إنشاء منظمة تحل محل عصبة الأمم لتحول دون تكرار مأساة الحرب فأنشأت "هيئة الأمم المتحدة" فكان لوجود الاتحاد السوفييتى القوى كعضو فيها أثره البالغ فى اندلاع حرب التحرر الوطنى فى كافة أنحاء العالم -ولقد وجدت الدول المستعمرة المغلوبة على أمرها فى الاتحاد السوفييتى سنداً ونصيراً مكنها من طرد الاستعمار ورفعت الأمم المتحدة شعار "تصفية الاستعمار" وعملت على تحقيقه ورأت الدول المتحررة فى الاشتراكية الطريق الوحيد لتعويض التخلف الذى فرضه عليها الاستعمار واتسعت رقعة الاشتراكية على حساب الرأسمالية.
وفى معركة الحياة والموت لا تستسلم الرأسمالية بل تزداد وحشية وضراوة كلما اقتربت نهايتها.
والرأسمالية فى محاولة دائبة لتأليب الشعوب على الاشتراكية ومحاولة محاصرتها بأحلاف عسكرية لعزلها عن العالم -غير أن الحق الذى فى الاشتراكية كان أقوى من الأحلاف ونفذ إشاعة إلى الشعوب فى أفريقيا وأمريكا اللاتينية فتحقق التحرر لكثير من الشعوب وقامت دول اشتراكية فى غير مكان وراء الأحلاف.
ولكى تجذب الرأسمالية الشعوب إلى أحلافها فهى تستخدم أحقر الوسائل وأحطها لخداع هذه الشعوب -فهى تقوم بحملة دعايات مسمومة تشوه الاشتراكية فى نظرهم.
وفى منطقة الشرق الأوسط -مهد الرسالات السماوية- ضربت الرأسمالية على الوتر الحساس فراحت تروج الدعايات عن مجافاة الاشتراكية (للدين) واضطهادها له وعملها على تفويضه.
وقد تناول أكثر من كانت ممن أتيحت لهم فرصة الذهاب إلى الاتحاد السوفييتى ومعاينة الواقع هناك وسجلوا مشاهداتهم وانطباعاتهم التى تدين كلها هذه الدعايات وتكذبها بالوقائع.
ولما أتيحت لى فرصة الذهاب إلى الاتحاد السوفييتى فى صيف سنة 1970 والاطلاع على أحوال المسلمين هناك ودراستها دراسة الملهوف لمعرفة الحقيقة وعدت أحمل هدية فاخرة عبارة عن مصحف وسجل مصور للآثار الإسلامية فى الاتحاد السوفييتى -أحسست بأن المكتبة العربية لا زالت فى حاجة إلى الكتاب الذى ينصف الاشتراكية ويبين للناس كيف أن "الدين" قد أزدهر فى ظل الحرية ورعاية الاشتراكية فأنجب المجتمع الإسلامى أعلاماً وقمما فى الفكر الإسلامى زادوا فى إنمائه وإثرائه.
أن المجتمع الإسلامى فى الاتحاد السوفييتى الذى ألغى من قاموسه كلمات: الفقير والسائل والمحروم - وكل مستحق للزكاه فوجه أموال الزكاة لرفع مستوى المجموع وإعانة المجتمعات الإسلامية فى بلاد أخرى يستحق أن يبذل فى سبيل إظهاره للناس جهد أرجو أن أكون قد وفقت إلى بعضه وأن يكون هذا الكتاب بداية موفقة لغيره من الكتب التى توفى هذا الموضوع حقه - والله ولى التوفيق .
يوسف صديق
27/8/1972

الفصل الأول: فيما قبل الثورة الاشتراكية

من بين عشرات الأديان التى تتواجد فى بلاد شاسعة الأطراف وتمثل سدس مساحة اليابسة من العالم مثل الأتحاد السوفييتى، يحتل الإسلام المركز الثانى بعد المسيحسة، من ناحية عدد المؤمنين به، والذين يصل عددهم إلى حوالى 16 مليوناً من السكان.
وينتشر المسلمون فى جميع أرجاء البلاد، وإن كانت أغلبيتهم تعيش فى رقعة واسعة من أراضى السهول فى مناطق آسيا الوسطى، وفى تلال سفوح جبال القوقاز وجبال البامير، وفى روسيا الوسطى على ضفاف نهر الفولجا، ومع ذلك فأنه توجد الجماعات الإسلامية فى المدن الروسية الكبرى مثل موسكو، ولنينجراد، وجوركى وبنزا، وكويبيشيف وراستوف على نهر الدون.
كما أنه من بين عديد القوميات التى يتضمنها الاتحاد السوفييتى، وينتشر الإسلام بين قوميات آسيا الوسطى وهى الأوزبك والقوغيز والكازاخ والتركمان والتاجيكيون، وبين التتر والباشكير من شعوب حوض الفولجا، والأذربيجانيون فى منطقة ما وراء القوقاز، والداغستانيون وعدد آخر من الأقوام فى القوقاز الشمالى.
ولا يمكن أن يصل الإسلام إلى هذا الانتشار سواء من ناحية عدد المؤمنين، أو أتساع الرقعة التى يمثل فيها العقيدة الأولى رغم ما نعرفه فى شأن الدعوات الدينية عامة من ازدهار فى بعض العصور، والضغط فى عصور أخرى، وتعرض المؤمنين للبطش فى عديد من صوره ومظاهره فى أوقات معينة، ونجاحهم فى بث دعوتهم والحفاظ عليها فى أوقات أخرى.. لا يمكن أن يحقق الإسلام هذا الانتشار، إلا إذا كان وراء ذلك تاريخ من الممارسة الحقة للعقيدة بدأ منذ الأيام الأولى للدعوة المحمدية، ولربما أن استعراضاً سريعاً لتاريخ الإسلام فى الاتحاد السوفييتى حتى عشية الثورة الاشتراكية يبرز الواقع الذى عايشه المسلمون فيه.


شمس الإسلام تشرق

كان للصلات التجارية، ورحلات القوافل المستمرة بين بلاد آسيا الوسطى والبلاد العربية وفارس أثره فى لفت أنظار المسلمين إلى نشر دعوتهم بين تلك الأقوام، وبعد أن انتشر الإسلام فى بلاد الفرس، وفى عامى 55 ، 56 هجرية أوفد الخليفة معاوية بن أبى سفيان قواته تحت قيادة سعيد بن عثمان لفتح البلاد ونشر الدين الإسلامى، وتم له النصر عندئذ على أقوام السفد وساك القديمة، واستشهد فى تلك الحروب فثم بن عباس ابن عم الرسول صل الله عليه وسلم، الذى دفن فى سمرقند، ومازال قبره مزاراً للمسلمين جميعاً هناك، إلى درجة أنه من التقاليد المعتادة حتى اليوم أن تزوره كل عروس تبركاً به قبل الزواج، كما استشهد مع ابن عم الرسول مريدة وتابعة ابن حصيب، والقيس بن عاصم ودفنوا فى نفس المدينة.
وقد تابع الحلفاء الأمويون إرسال الجند إلى تلك البلاد -والتى كانت تسمى ما وراء النهر- للدعوة للديانة الإسلامية، وتعليم القرآن واللغة العربية، وفى عهد عبد الملك بن مروان أرسل قتيبة بن مسلم قائداً ومعلماً فنجح فى رسالته أيما نجاح إلى أن وصل فى نشر الدعوة إلى حدود الصين، وأرسى الحكم الإسلامى فى كل البلاد، وفرض الجزية عليها واستتب بجهاده النظام إلى أن توفى ودفن فى بلدة فرغانة.
أما أذربيجان التى كانت على الدوام، ومنذ فجر التاريخ بلداً عريقاً، فقد تم فتحها فى القرن السابع الميلادى -القرن الثانى الهجرى- وتبعت هى الأخرى للخلافه الأموية الإسلامية، وانتشر الإسلام فيها بسرعة كبيرة حتى أصبحت مركزاً تجارياً وثقافياً كبيراً فى وسط آسيا، وتطور الإسلام بها تطوراً كبيراً، ولكن عندما ضعفت التبعية للخلافة العربية فى القرن السادس عشر، نشأ عدد من الدويلات المستقلة مثل دولة الأبابيكيين إيلديكنربين، ودولة الشيروان شاهين وغيرها، ولكنها ظلت فى مجملها دولة إسلامية حتى القرن السابع عشر الميلادى عندما استولى عليها القيصر وضمها إلى أملاكه.
أما القوميات التى كانت تقطن ضفاف نهر الفولجا -وكانت تعرف بأسم بلاد بلفار- أى التتار والباشكير كما تسمى حالياً، فقد دعا أميرها عدداً من علماء المسلمين فى عهد الخليفة المعتصم بالله فى القرن الرابع الهجرى، وبعد الاستماع إلى دعوتهم أسلم على يديهم كما أسلم قومه، وبقى عديد من هؤلاء العلماء لتعليم الدين الإسلامى والقرآن الكريم.
وعليه فقد مضى على دخول الإسلام فى تلك البلاد ألف عام على الأقل، وأتيح له خلال هذه الحقبة الطويلة من الزمان أن يزدهر، كما مرت عليه أوقات لاقى فيها من العنت والاضطهاد الشئ الكثير، ولكن ما كان لأى عقيدة أن تعيش طوال هذا الزمن معتمدة على المصادر الفكرية الخارجية فحسب، بل لا بد أن يكون قد بزغ من بين أبناء تلك المناطق من أثروا العقيدة بجهودهم، ومن ثم أتاحوا لجذورها أن تضرب فى هذا المنبت، وأن يعلو صرحها عالياً بين تلك الأقوام.

ازدهار العلوم الإسلامية

فالواقع أن تلك الأجزاء من الاتحاد السوفييتى التى دخل الإسلام إليها قد أنجبت أعداداً من الفقهاء والأئمة الذين مضى ذكرهم عبر التاريخ -ويظل يمضى- ما يندر أن تجد مثيلا له بين عدد من دول المسلمين وبلادهم.
ولا نعتقد أن ملسماً فى العالم أجمع يجهل صحيح البخارى الذى يعتبر حتى اليوم المرجع الأول فى الحديث الشريف، لقد ولد صاحبه الإمام محمد بن اسماعيل البخارى فى بخارى عام 194 هجرية حيث درس علوم عصره وخاصة ما أتيح له من الحديث الشريف، ولكنه خرج من بخارى حاجا تصحبه أمه وأخوه حيث توفى الأخير فى مكه المكرمة ، بينما رجعت أمه إلى وطنها، بقى هو فى المدنية المنورة وشرع فى تأليف كتابه "الجامع الصحيح" بين القبر وروضه رسول الله صل الله عليه وسلم، فأتمه على مدى 16 عاماً، ثم عاد إلى بلاده، ومعه هذه الثروة الواسعة من الحديث وتفسيره على يد علماء الحرمين الشريفين، وقام على تدريسها ببلاده حتى ذهبت الأقوال بأنه قد بلغ عدد من تلقوا منه الحديث الشريف تسعين ألف شخص، وقد تتلمذ على يديه العديد من العلماء المشهورين فى منطقة ما وراء النهر قد يذكر منهم الإمام الترمذى وأبو الحيثم كليب الشاشى (نسبة إلى طشقند)، وأدى جهده الكبير هذا إلى أن ينتشر فى تلك المنطقة العديد من الكتاب فى الحديث وتفسيره، ونقد رواته، وتصحيح الرواية، وهكذا.
والمسلمون فى بقاع الأرض يعرفون كذلك الحاج محمد بهاء الدين النقشبندى الذى ولد فى قرية قصر عرينون ودرس فى بخارى وحج مرتين إلى مكة المكرمة والمدينة، والذى أسس اتجاهاً جديداً، وطريقة فى العبادة أمكن أن تجذب إليها العديد من المريدين والأتباع فى آسيا الوسطى وتركيا والبلدان العربية والهندستان وأندونيسيا.
أما الحكم الترمذى فصاحب عدد من الكتب الدينية الهامة، من بينها كتابة المشهور "نوادر الأصول".
أما سميه أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذى فمحقق مشهور للحديث، ومؤلف كتاب "الجامع" الشهير، ويعتبره المسلمون فى بقاع الأرض كلها أقرب مفسرى الحديث إلى محمد بن اسماعيل البخارى.
ومن بين أبناء تلك المناطق سعيد على الهمزانى مؤلف العديد من الكتب الدينية والتى يلاقى منها كتابيه "روضه الفاتحية"، "تهافت الملوك" أوسع الانتشار وكثير الرواج بين الدارسين فى حقول المعرفة الإسلامية.
وسوف يمضى بنا الحديث طويلاً إذا ما نحن عددنا كل العلماء الجهابذه الذين أنجبتهم تلك البلاد، فالكتابة عنهم وعن إنجازاتهم العلمية فى مجال العقيدة الإسلامية إنما تحتاج إلى مجلدات عديدة، ولكن قد نضيف إلى من سبق ذكرهم علماء آخرون لهم شهرتهم وقدرهم المعلى مثل الإمام أبو حفص الكبير البخارى وكتابه عن الفقه الحنفى، وعلى بن أبى بكر برهان الدين المرغيثانى صاحبالهدايه فى الفقه الحنفى، وعبد الله بن مبارك المرزى ذو المؤلفات العديدة فى الفقه والحديث، ومحمد بن بشار اليتكنى وعهد بن حميد الكيشى، وأبو البركات النسفى مؤلف "مدارك التنزيل" والإمام الزمخشرى مؤلف "الكشاف" وأبو الليث السمرقندى، والإمام الزاهد السمرقندى.
ولم يقتصر الجهد على كتب الحديث والفقه بل امتد إلى اللغة العربية ذاتها، حيث برز العديد من العلماء فى هذا المجال من أبناء تلك المناطق، لعل من أهمهم أبو بكر محمد بن اسماعيل المشهور بالقفال الشاشى (أى الطشقندى نسبة إلى طشقند) الذى لا يزال قبره يزار حتى اليوم من قبل الوفود العديدة من أنحاء العالم الإسلامى والعربى، وما زال العلماء يعلقون الشروح والحواشى على كتبه وإنجازاته العلمية.
وكان من أثر انتشار تعاليم الإسلام والحرص على الصلة بالبلاد العربية مهبط الرسالة السماوية، أن انتشرت فى تلك البلاد كثير من ألفاظ اللغة العربية خاصة تلك التى ترتبط بمعانى إسلامية فتراهم هناك وحتى اليوم، ينطقون العديد من الكلمات العربية ويستعملونها مثل عيد الفطر وعيد الأضحى والصدقات ومولد النبى وليلة القدر وقارئ بمعنى مقرئ مجيد للقرآن، وحافظ بمعنى من حفظ القرآن وأجادة، وقاضى ويقصد بها المأذون أو رجل الشرع فى المنطقة -وهكذا.
لقد أنجبت مناطق آسيا الوسطى والقوقاز والفولجا -بالإضافة إلى أئمة العقيدة المذكورين -علماء وفلاسفة وفلكيون وأطباء وشعراء طبقت شهرتهم الآفاق مثل النظامى، والخوارزمى، والفارابى، والفردوسى، والبيرونى، وابن سيناء، وأولوج بيك، وفيزولى، وناصر خسرو، وعمر الخيام، ونفوا، وتوسى وغيرهم عديدون، فقد كان أبو بكر بن محمد زكريا الرازى أول من ألف فى الطب كتابة المشهور "الحاوى" والذى يقع فى أربعين مجلداً، وكذلك كتابة عن "الأغذية"، أما أبو على بن حسين الشهير بابن سيناء فقط ترجم كتابه "القانون فى الطب" إلى جميع اللغات الرئيسية فى العالم، ذلك بالإضافة إلى أبحاث أبو الريحان البيرونى فى الفلك والرياضيات والجغرافيا، مؤلفات هؤلاء جميعاً لم ينقص قدرها أو أهميتها حتى يومنا هذا رغم التقدم العلمى العظيم، وما زالت تدرس باهتمام بالغ فى عديد من المؤسسات العلمية فى العالم.


العقيدة تزدهر تحت ظلال الحرية

لعل تلك الواقعة التى أوردناها من دعوة أمير مناطق الفولجا لعلماء الإسلام والاستماع إليهم ثم الإيمان بما أتوا به دليل حى على جو الحرية -حرية الكلمة والعقيدة- الذى صاحب الفترات الأولى لإنتشار الإسلام فى تلك البلاد البعيدة، والذى كان من آثاره تلك النهضة الواسعة فى العلوم الدينية والدنيوية عامة، والتى أثمرت هؤلاء القدماء عامة، والتى أثمرت هؤلاء القدماء الفطاحل فى علوم الفقة والحديث، أو علوم الطب والكمياء والفلك والرياضيات والفلسفة والشعر.
ولكن المناطق التى يسكنها المسلمون فى الاتحاد السوفييتى كانت بحكم موقعها الجغرافى مطمعاً للعديد من الفاتحين، فآسيا الوسطى كانت الطريق إلى الشرق والهند والصين، كما أن القوقاز هو معبر بلاد روسيا الباردة إلى الجنوب الدافىء، وتمثل مناطق الفولجا واحدة من أهم مناطق الثروة الطبيعية فى شرق أوربا، ولهذه الأسباب فلم يكن ممكناً أن تظل الدول الإسلامية التى أقيمت فى تلك البلاد قوتها الأولى، خاصة وقد لعب ضعف الخلافة الإسلامية سواء فى بغداد أو فى القسطنطينية دوراً كبيراً فى تفكك أوصال الأمبراطورية الإسلامية وتحويلها إلى عديد من الدويلات الضعيفة.
ولذلك فقد تعاقب على آسيا الوسطى عديد من الدول مثل سوفديان وبشكيريا، ثم الفرس، فالأسكندر الأكبر، يتلوه الأتراك، ثم فى النهاية العرب عند دخول الإسلام، وبدأ حلول الظلام على تلك البلاد بهجوم جيوش التتار بقيادة جنكيزخان الذى أعمل وقومه الدمار والنهب حيثما حلت جيوشهم، إذ خربت عشرات المدن، وأخضعت بحد السيف أعداداً كبيرة من المؤمنين ودمرت المئات من المعابد المقدسة، وعزمت على تدمير مدينة بخارى برمتها.
ولربما أن عصر تيمورلنك فيما بعد عصراً من الأزدهار وبلوغ الإسلام كامل قوته هناك، ولكن قسوته واضطهاده للشعب من ناحية، ووقوع السلطة فى يد الجهلاء الذ يمثلون الغاشمة أدى فيما بعد إلى توقف الأزدهار فى كل العلوم والفنون، إلى حد أن يقتل المتآمرون عالماً مشهوراً هو أولوج بيك مؤسس أكبر مرصد فلكى فى العالم فى ذلك الوقت، وقد استمر حكم التيموريين فى آسيا الوسطى لفترة طويلة، ولكن ظلت الدولة فى اضمحلال.
وصارت آسيا الوسطى التى تمزقت أوصالها بعد ذلك إلى إمارات عديدة، مسرحاً لحروب طاحنة ومنازعات شديدة عانى منها دينها الأمرين، وأخذ كل أمير مدفوعاً بصالحه الشخصى ينهب الشعب ويعمل على إبادته، واتسع نطاق النزاع القومى والاضطهاد الدينى واتخذ صورة مروعة فقد أقسم الأمير أمام كولى عند فتح طشقند أنه سيستمر فى وحشيته حتى تبلغ دماء سكان المدينة ركاب سرجه.
وفى النهاية وقعت آسيا الوسطى تحت حكم القيصرية.
أما أذربيجان، تلك الدولة العريقة والتى استطاعت أن تعقد اتفاقاً سياسياً ومعاهدة عدم اعتداء مع الإسكندر الأكبر، فقد دخلها العرب كما سبق أن أشرنا فى القرن السابع الميلادى، وتكونت بها دولة إسلامية سرعان ما ارتبطت بعد ذلك بالحكم الإسلامى فى بلاد فارس وإن ظل لها استقلالها، ولكن ضعف الخلافة الإسلامية بعد ذلك أدى إلى تفتت تلك الدولة إلى عدد من الدويلات والإمارات الصغيرة الأمر الذى جعله شيئاً ميسوراً أن تستولى عليها روسيا القيصرية وتفرض سلطانها عليها فى عام 1723 ميلادية.


الإسلام فى ظل القيصرية

وقعت كل المناطق الإسلامية تحت حكم القيصر، وقد كانت عندئذ دولا مضمحلة أو إمارات متحاربة مفتتة، وبالتالى فقط استطاعت القيصرية أن تفرض سلطانها كاملا على تلك البلاد، وأن تجعل منها مجرد دويلات توابع خاضعة للدولة الروسية الكبرى وفى حكم مستعمراتها.
وقد كان النظام القيصرى يستند إلى الكنيسة الأوثوذكسية مما جعلها فى وضع امتياز خاص، تعمل الدولة على حماية مصالحها، وتنفق الأموال الطائلة لتدعيمها، وتعاونها قدر الاستطاعة فى محاربة الديانات الأخرى وعلى الأخص بالإسلام واليهودية والبوذية، وأصبح الطريق إلى مناصب أجهزة الدولة سواء العليا منها أو الثانوية، وإلى المدارس الحكومية بهدف التعليم، مسدوداً أمام غير الأورثوذكس، وانتشرت ملاحقة الأفراد على أساس دينى، وبلغ من سلطان الكنيسة إن لم تقتصر الملاحقات على اتباع الديانات الأخرى، بل على كل من رفض أى طقوس أو قواعد تفرضها الكنيسة الأورثوذكسية، إلى درجة أن يعتبروا هراطقة ويساموا أشد أنواع العذاب، ولعل المثال على ذلك واضح فى طائفة ما زالت تسمى حتى اليوم فى كندا "دوخوبورى" من الذين اضطر آبائهم فى مطلع هذا القرن إلى مغادرة روسيا بسبب الاضطهادات الدينية.
ولأن الحكم فى جوهرة كان حكماً استعمارياً هدفه تسخير الشعوب المستعبدة لصالح السلطة المستعمرة، فقد كان نصيب القوميات التى تعتنق الإسلام هو الاستغلال الاقتصادى والتأخر الاجتماعى والقومى، وسار الاستغلال الاقتصادى جنباً إلى جنب مع مختلف مظاهر التأخر، ولأن من سياسة الاستعمار دائماً "فرق تسد" فقد سعت الإدارة القيصرية إلى بذر المنازعات بين الشعوب المسلمة، واجتهدت فى أن تثير الشقاق العميق بين الشيعة والسنة.
ويمكن أن يذكر على سبيل المثال سياسة القيصر تجاه التتار، فقد أجبر مئات الألوف منهم على اعتناق المسيحية سواء بالقوة أو التهديد أو الخداع أو الضغط الاقتصادى، وحرم على المسيحيين منهم أن يعيشوا فى نفس المناطق التى يعيش فيها التتار المسلمون، وبينما كان المسلمون منهم يستعملون الأبجدية العربية، فرض على المسيحيين استعمال الأبجدية الروسية، وكانت نتيجة ذلك وغيره أن تدعمت الفوارق فى طريقة الحياة والعادات بين قسمى التتار، المسيحى والمسلم، على مدى السنوات، لا لصالح القومية، ولكن فى صالح الحكم القيصرى.
ولم يكن الإسلام والمسلمون فى آسيا الوسطى أسعد حظاً من التتار، فقد حولت القيصرية بلادهم إلى مستعمرة داخلية، تطأ فيها حقوق وعادات الشعب، وتنظر إليه على أنه شعب من الدرجة الثانية، ولم تتحقق له حرية الضمير طوال الحكم القيصرى، فقد وضعت المدارس تحت رقابة صارمة وحرم فيها تدريس أى علوم دينية، كما روقبت بشدة كل الجوامع وأماكن العبادة وذهبت القيصرية إلى أبعد من ذلك إذ سعت فى كل المراكز الدينية الإسلامية فى بخارى وسمرقند وكوكند، لإفراغ الدين من كل دعوة إلى الإحساس القومى، وأن توقع بينه وبين كل دعوة تقدمية فى ذلك الحين، ويقول المفتى الحالى ضياء الدين خان بن إيشان بابا خان فى مقدمته لكتاب إسماعيل البخارى "الأدب المفرد" إن نظره إلى تاريخ المسلمين فى آسيا الوسطى خلال القرون الثلاثة الأخيرة توضح أن الإسلام صار أداة فى يد أمراء الإقطاع الأغنياء بحيث قد حولوا الدين إلى أداة لفرض سلطانهم وللكسب، وتحول عدد من رجال الدين إلى أدوات طيعه فى أيديهم، لقد ساعد هؤلاء على نشر اتجاه انعزالى إلى حد أن تناسوا القرآن والحديث، ودعموا الانقسام بين المسلمين إلى درجة أن المسلمين هناك كانوا ينظرون إلى اتباع مدارس مذهب السنين (فيما عدا الحنفيين) كهراطقة، وظهرت دعوات إلى أنه لا مجال لأى تفسير أو اجتهاد فى القرآن، وأن الباحثين القدامى قد أوفوا كل شئ حقه، وما على المسلمين إلى أن يقرأوا ما كتب الأوائل وأن يحفظوه فحسب.
وتطرفوا فى دعوتهم تلك إلى درجة الاتهام بكل أنواع الذنوب لأى مسلم اتجه -تحت ضغط الظروف التى يعيشها من قهر وإرهاب- إلى دراسة المعانى التى يفرضها القرآن والحديث للحياة.
****
هذا استعراض سريع لدخول الإسلام أراضى الاتحاد السوفييتى، والذى يرجع إلى عهد الخلفاء الراشدين الأول والصحابة، ثم تطوره فى تلك البلاد، والذى يمكن أن يلاحظ منه أن الإسلام قد شاهد هناك نفس ما شاهده فى معظم البلاد الغسلامية على مر العصور من ازدهار على يد العديد من الباحثين والمدققين فى أجواء من الحرية والسماحة التى يدعو إليها الدين، كما تعرض إلى التأخر والاضطهاد والملاحقة حيث ضعف شمل المسلمين وتفرقت كلمتهم وسيطر عليهم المستعمر، يسخرهم لصالحه، ويضرب على كل دعوة إلى الحرية، وكل تطلع إلى الاستقلال القومى، ملاحقاً الدعوة الدينية ذاتها كلما كان فيها ما يزكى هذه المشاعر.
****
وإذا كانت ظروف روسيا القيصرية قد وصلت بالمسلمين إلى الحد الذى أوجزنا الإشارة إليه، فماذا كان موقفهم من الثورة الاشتراكية، وما الذى كان عليه موقفها منه، ذلك ما نرجو الإجابة عليه فى الفصول التالية.

الفصل الثانى: المسلمون والثورة الاشتراكية

 ظروف تهيئ للثورة
لقد دمغ التاريخ كم قياصرة الروسيا بكونه أسوأ أنواع الحكم الذى شهدته بلاد أوربا فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولقد ساعد على ذلك طبيعة الحكم القيصرى ذاتها، فقد كان كماً أوتوقاطياً لا يمارس أى شكل من أشكال الديمقراطية، كما فعلت بلاد أوربا الغربية، بحيث يخفى مظهر الحرية أوجه الاستغلال الداخلى الذى تقع تحته جماهيرها العاملة، ولم يكن للروسيا من المستعمرات ما يتيح امتصاص دماء شعوبها بالقدر الذى يساعد على رشوة الطبقات العاملة فى الداخل، كما فعلت معظم بلاد أورا الغربية، وبالتالى تؤجل الثورات الاجتماعية إلى حين، لقد كان حكماً فردياً يمارسه القيصر وحلقات الأمراء والمنتفعين من حوله، وتدعمه الكنيسة التى كانت تفرض سلطانها فى ذلك الوقت تمتد من وسط أورا حتى أقصى شرق آسيا بها من الخيرات ومصادر الثروة ما كان يتيح أن يتواجد بها -بمقاييس ذلك الوقت- قدر من الورفة يساعد على معيشة آدمية لسكانها، إلا أن انصراف الأداة الحاكمة إلى تكوين الثروات الخاصة، وإلى الإنفاق الجاهل إلى حد السفه، وقف إزء أن تأخذ بلادها بأسباب التقدم العلمى والتكنولوجى، وسيطر على البلاد جو من التأخر الفنى، وعدم الإيمان بالدولة إلى حد أن ظلت تقاسى تلك الدولة المترامية الأطراف، العديدة السكان، من الهزائم العسكرية سواء فى الجنوب على يد إمبراطوريات وسط أوربا وتركيا، أو الشرق على يد اليابان، أو على يد ألمانيا والنمسا خلال الحرب العالمية الأولى، لقد كان نظام الحكم القيصرى يحمل فى طياته من عوامل الانهيار ما يجعله غير مقبول من الجماهير فى الداخل، وعرضته للمطامع من الخارج.
لقد كان طبيبعاً أن تفرز هذه العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بذور الثورة فى داخلها، أملا فى التغيير إلى الأفضل، وسعياً إلى أن تنال الجماهير -التى كان يباع من جانب أمراء الإقطاع مع الأرض كما تباع السوائم- حقها فى مجرد الحرة الكريمة.
ولقد أفاض أبناء روسيا ذاتها فى وصف مثالب النظام، وبرز من بينهم الشعراء والقصاصون والأدباء الذين أفاضوا أكثر من غيرهم فى فضح عيوب النظام ودعوا إلى تغيره فى روسيا، أكثر من أى بلد آخر، الجماعات السرية، وذلك أبلغ رد من جانب فقهاء المسلمين على هؤلاء الذين ساروا فى ركاب الأمراء والخانات واتباع القصير الحاكمين، والذين تحت مسوح من لباس الدين جاهروا أمام المظلومين من شعوبهم بأنه لا وفاق بين الاشتراكية والاسلام، وأن التفكير فى التغيير الاجتماعى ليس أمراً مكروهاً فحسب، بل محرم كذلك.


وقامت الثورة
 لقد قامت ثورة أكتوبر 1917 لتقضى على النظام القديم فى روسيا واتجهت ضد الأغنياء جميعاً من رأسماليين وإقطاعيين وأمراء وبكوات وقيصرية، أى ضد الذين كانوا يعيشون على حساب الكادحين، والذين بنوا سعادتهم على فقر الشعب ودموعه وأحزانه، ونقلت السلطة جميعها إلى أيدى الشعب العامل.
وبالتالى اتحد جميع الذين اكتسحهم طوفان الثورة، وحشدوا قواهم، فتدخلت الدول الاستعمارية لتقضى على النظام الجديد، واستمرت حربهم له سنوات عديده، كما قام الأمراء والبكوات والخانات المطرودون -شأن الرأسماليين والاقطاعيين المطرودين من باقى أجزاء الاتحاد السوفييتى- بتكوين قواتهم الخاصة فى الداخل لمحاولة إسقاط النظام الذى قضى على كل ثرواتهم وسلطانهم، وانتشرت فى آسيا الوسطى عصابات عرفت بأسم الباسماتشى تكونت فى الأساس من القتلة والسفاكين والنهابين، وانتشرت بين الكادحين الذين أيدوا الثورة، تنهب بيوتهم، وتحرق ديارهم، وتخرب محاصيلهم، وتدمر الترع والقنوات أملا فى نشر عدم الثقة والخوف ومنع إقامة الحياة العادية، حتى يرتبك النظام الجديد ويصبح سهلا بفضل التدخل الاستعمارى الاجنبى.
واتضح لدى الشعب المسلم ماذا يريد الباسماتشى، واشترك رجال الدين فى الكفاح ضدهم، وأخذ الأئمة والخطباء يجندون المؤمنين للجهاد إزاءهم، ونظموا الفرق والفصائل لمحاربة رجال العصابات، ولذلك أنصب قدر كبير من نقمة هؤلاء على رجال الدين فأخذوا من وصلت إليه أيديهم بكل قسوة ووحشية، ودنسوا المساجد والحرمات، ونهبوا أملاك الجماعات الدينية، ومات العديد من رجال الدين ميته الأبطال.
وأصدر رجال الدين الإسلامى قراراً خاصاً ضد الباسماتشى يقول "هناك حيث يحكم المؤمنون وأبنائهم، وحيث يتركز الاهتمام برفاهية المؤمنين ورخائهم، وتبذل الجهود لتحسين حياتهم، فان هذه الأرض تنعم بعناية الله لأنها أرض مباركة، والذين يخرجون فى طاعة حكامها يستحقون اللعنة فى الدنيا والآخرة".
وإذا ظلت عصابات الباسماتشى تمارس نشاطها بفضل العون الاستعمارى المتدفق اجتمع مؤتمر رجال الدين فى جمهورية بخارى الشعبية فى عام 1942، واتخذوا قرارهم الذى جاء فيه "لقد أقام شعب بخارى بنفسه جمهوريته، ومن ثم يصبح واجباً احترام إرادة الله التى سمحت بقيامها، أنه يجب إلقاء السلاح والعودة إلى حياة السلام فى ظل العفو والتسامح العام، لأن تلك إرداة الله ومطالب الشعب، أن سلطة الشعب السوفيتية فى بخارى عادلة ورحيمة ولا تريد مزيداً من إراقة الدماء، ولكن إذا لم يبد الباسماتشى الخارجون على القانون اذناً صاغية إلى هذه الدعوة المبنية على ما جاء بالقرآن الكريم، وإذا لم تلق سلاحها كانت من العصاة لإدارة الله، ووجب على السلطة السوفيتية إبادتها إبادة تامة، وكان قتلهم بغير ذى خطيئة عملا بالشريعة".
والخلاصة أن المسلمين فى جمهورياتهم كانوا أمام اختيارين لا ثالث لهما، أما الانتصار لنظام يضع السلطة السياسية والاقتصادية بين يدى جماهير الشعب الواسعة بعد سنوات طويلة من ظلام الاضطهاد، وذلك ما اختارته أغلبيتهم الساحقة،وعلى رأسها زعماؤهم الديليون، أو الانتصار لعصابات تريد العودة بالسطلة إلى الماضى بكل ما كان فيه من إستغلال واضهاد وإرهاب، وهذا ما اختاره الأمراء والبكوات والخانات ومن ركب ركبهم من قلة من رجال الدين، أختارت الأغلبية الساحقة صف الثورة الاشتراكية وعملت على تأييدها، ويمكن أن نورد هنا بعض الأمثلة منذ الأيام الأولى للثورة، وأثناء حروب التدخل ووقت لم تكن السلطة السوفيتية قد تدعمت بشكل كاف.
ففى 13 مارس 1920 اجتمع المؤتمر الأول لممثلى الشعب فى منطقة التركمان وأرسل تلغرافلى لينين يقول "إن المؤتمر الأول لممثلى شعب تركمان يرسل يوم افتتاحه بتحياته القلبية لكم إن شعب تركمان بأكمله، الشعب العامل يحيى الثورة الروسية الكبرى، وكل العمال والفلاحين فى روسيا، إن الثورة الشيوعية التى حررت شعوب روسيا من أدران العبودية، قد فتحت لأول مرة آفاقاً عريضة للنور والحق والعدل، ونحن التركمانيون نقسم كرجل واحد أن نحافظ على مكاسب السلطة السوفيتية، ونفضل الموت قتالا عن أن نسمح لأعداء الثورة الاجتماعية أن يزعزعوا السلطة السوفيتية فى تركستان أو كل روسيا".
كما أرسل الزعماء الدينيون ومشايخ جمهورية داغستان الاشتراكية السوفيتية فى 25 فبراير 1923 إلى لينين يقولون "أن ال 76 مشتركاً فى مؤتمر رجال الدين ومشايخ المسلمين فى داغستان يحيونك قائد جيش العمال العظيم الذى يحرر العالم كله من سلاسل العبودية، ونحن نؤمن أنه بفضل جيشنا سوف يمكن لكل العالم الإسلامى أن يتحرر من الاستعباد".
وفى 3 ديسمبر 1921 أرسل رئيس مؤتمر "خوجات" أجاريستان باسمهم خطاباً إلى لينين يقول فيه أنه "يحيى قائد الثورة البروليتارية العظمى، بطل تحرير الشعوب المستعبدة وكل الجماهير العاملة فى العالم، أن انعقاد أول مؤتمر لخوجات أجاريستان لا يعبر التفاتاً إلى التأكيدات الاستفزازية الموجهة إلى جماهير الشرق -تلك التأكيدات بأن السلطة السوفيتية تعنى اضطهاد الدين، وأنه ليقنع كل الجماهير المستعبدة فى العالم من الرأسمالية، وسلطة السوفيتات، ويعبر المؤتمر عن عميق ثقته فى النصر المقبل لكل الجماهير العاملة فى الشرق".
وفى عام 1920 أرسل قادة المسلمين فى مقاطعة سباسك برقية إلى أجهزة السلطة بمناسبة إعلان جمهورية التتار يقول "أن رجال الإسلام فى منطقتنا يحيون بسرور إعلان جمهورية التتار، وتتعهد بتأييدها، والمساعدة فى وقوفها على قدميها، بنشر العلم بين الجموع الأمية، إننا نعتبر السلطة السوفييتيه كالحامى الوحيد لمصالح الأقليات القومية، أن الفترة التى نعيشها فترة انتقال سوف تكون مقدمة لحياة سعيدة للبروليتاريا".


 موقف الثورة من المسلمين
ولم يكن ممكناً أن يأخذ المسلمون، وعلى رأسهم رجال دينهم من الثورة هذا الموقف المؤيد، والذى تعدى حدود التأييد بالكلمة إلى حمل السلاح دفاعاً عنها، إلا إذا كان موقف الثورة ذاتها منهم، ما جعلهم يؤمنون بها إلى هذا الحد، والواقع أن استعراضاً لإجراءات الثورة وقراراتها فيما يتعلق بعديد الأديان التى كانت قائمة عندئذ ومن بينها الدين الإسلامى -ثانى الأديان انتشاراً فى الاتحاد السوفييتى- يمكن أن يبين بوضوح لماذا كان تأييدها واسعاً بين كافة جماهير الشغيلة فى جميع أرجاء البلاد.
لقد مثل ما كتبه لينين -وسبق ذكره- فى 1903 الموقف الفكرى للثورة الاشتراكية إزاء جميع الأديان والعقائد بشعبة الثلاث، من أن لكل أمرئ أن يعتنق الدين الذى يراه وأن ينشره وأنه لا يجب أن تكون هناك كنيسة سائدة، وأن العقيدة أمر يخص الضمير، وانعكس بعد نجاح الثورة فى كل قرارتها.
فبعد أسبوع واحد من قيام الثورة صدر إعلان حقوق شعب روسيا، الذى قضى على سيطرة الكنيسة الأورثوذكسية الروسية متضمناً الحقوق المتساوية لكل الأديان، واعتبر المواطنون أحراراً فى أمور العقيدة الدينية، وأعلنت المساواة التامة بينهم بصرف النظر عن عقيدة أى منهم، وقد تجسد هذا فى القانون الذى أصدره لينين فى 23 يناير 1918 "بفصل الكنيسة عن الدولة، والمدرسة عن الكنيسة". وقد كان ذلك يعنى وضع حد نهائى لسيطرة الكنيسة واعتبارها جزءاً -بل فى الواقع محركاً- من أجهزة الدولة، وصارت سلطتها محصورة فى اتباعها ولا حق لها فى التدخل فى أى أمر من أمور الدولة، ولكنه وبنفس المنطق صار محرماً على الدولة وأجهزتها أن تتدخل بأى صورة فى أمور الكنيسة.
كما أبرزت الثورة احترامها لمعتقدات وتقاليد المسلمين فى واحد من أول المراسيم التى أصدرتها بعد أقل من شهر من قيامها حين توجهت فى نداء إلى جميع الكادحين المسلمين فى روسيا والشرق"، وقعة لينين وجاء فيه "إن معتقداتكم ومسساتكم القومية والثقافية تعتبر من الآن حرة مصونة، أنه يمكنكم إقامة حياتكم القومية بحرية ودون أى عوائق، إن ذلك حقكم".
واستمر الخط الفكرى للثورة ثابتاً حتى تعبر عنه بصورة نهائية وحاسمة فى دستور الاتحاد السوفييتى الذى تنص المادة 124 منه على أنه "حتى تتأكد حرية الضمير لدى المواطنين، تنفصل الكنيسة فى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية عن الدولة، والمدرسة عن الكنيسة، ولكل المواطنين الحق فى أداء الشعائر الدينية، أو ممارسة الدعابة ضد الدين"، وتكمل المادة تلك النظرة بنصها على أن لكل المواطنين السوفييت فوق سن الثامنة عشرة بصرف النظر عن عقيدتهم الحق فى انتخاب ممثليهم، كما أن للمواطنين فوق سن الثالثة والعشرين أن يرشحوا كممثلين إلى أعلى أجهزة الدولة، مجلس السوفييت الأعلى لإتحاد الجمهوريات السوفييتية".
وانطلاقاً من تلك النظرة فان جميع الوثائق المدنية الرسمية فى الاتحاد السوفييتى تخلو من أى إشارة إلى الدين سواء تعلق ذلك بدخول الوظيفة أو المدرسة أو الالتحاق بالجيش، كما حددت الدولة المسئولية الجنائية للأعمال التى تعوق تأدية الشعائر الدينية، فالمسئولية بهذه الصفة تقع على كل من يرفض قبول المواطنين للعمل أو الدراسة فى أى معهد من المعاهد، أو كل من يفصل المواطنين من العمل أو المعاهد، أو كل من يحرم أى مواطن من الامتيازات العادية وغيرها مما يحدده القانون، أو كل شكل من أشكال تقييد الحقوق، إذا ما تم ذلك على أساس العلاقة بالعقيدة.
ومع ما يوفره القانون من حرية العقيدة والعبادة وأداء الشعائر الدينية والدعوة لها، فأنه نظراً للطابع العلمانى للدولة فان غير المؤمنين يتمتعون كذلك بحق الدعاية ضد الدين، على أنه -وبحكم القانون- لا يجوز أن تمارس بأى صورة فيها مساس بمشاعر المؤمنين، ولذلك فهى تنحصر دائماً فى الآراء المادية فى نشوء الكون والحياة، وغيرها من قضايا الطبيعة.
ولا تحظر القوانين السوفيتية القائمة إلا الطوائف الدينية التى يكون الدين فيها ستاراً للتبشير أو القيام بطقوس وحشية أو الفجور، فتحرم مثلا فى الاتحاد السوفييتى طائفة "الخصيان" التى تطلب من كل واحد من اتباعها أن يكون مخصياً، كما حرمت طائفة "خسيتى" التى تفرض مشادات اجتماعية بين أتباع الطائفة من الجنسين، تتحول بموجب الطقوس إلى أعمال فاجرة، كما حرم نشاط "شهود يهوه" لأنها تعتبر بالفعل منظمة معادية للاتحاد السوفييتى تستغلها المؤسسات الإمبريالية فى الخارج ومن بينها ادارة المخابرات المركزية الأمريكية للعمل التخريبى فى الداخل، ويقع مقرها الرئيسى فى بروكلين بالولايات المتحدة وترسل منه إلى الأراضى السوفييتية بطرق سرية منشورات معادية للدولة، كما يفرض على اتباع "شهود يهوه" عدم الخضوع للقوانين والعصيان المكشوف على السلطات السوفييتية.
 ****
ويتعلق ما سبق بيانه من علاقة الثورة الاشتراكية والمسلمين بالبيانات الرسمية والقرارات، وقد أوضحت أن الثورة التزمت فى تصرفاتها بالخط السياسى الذى أعلنته منذ ما قبل الثورة بسنين عديدة والذى يلخصه أن العقيدة أمر يخص ضمير الإنسان بحيث لا يمكن لأحد أو النظام -حتى إذا أراد ذلك- أن يحاربه، وأنه بالتالى لكل أمرئ الحق فى أن يختار العقيدة التى يراها، بل وله فوق ذلك أن يدعو لها، فأنه من المضامين الأساسية للحرية أن يستطيع الإنسان المجاهرة بما يؤمن به، وأن يبين محاسن عقيدته وما ارتضاه ضميره.
وأنه ضماناً لتلك الحرية وتأكيداً لها، لا يجوز أن تكون هناك فى الدولة كنيسة سائدة مسيطرة، لأن معنى ذلك الحد من حرية الآخرين من غير اتباعها فى اختيار عقيدتهم وممارستهم، بل وتعرضهم للاضطهاد أو على الأقل العنت والإرهاق بسببها، من هنا التزمت الثورة بهذا فى مواقفها المبدئية وقرارتها وضمنته فى النهاية دستورها ليصير شريعة تتبع فى الاتحاد السوفييتى كله.
وقد يضيف وضوحاً إلى تلك المواقف المبدئية المتجسدة فى وثائق الدولة ونظامها، مواقف قادة الثورة فى المسائل اليومية التى قد لا تحكمها مثل تلك المبادئ، وسوف نستعرض عدداً منها فيما يلى لعله يزيد أمر العلاقة بين الثورة والمسلمين وضوحاً للقارئ.
 مصحف عثمان
كان مصحف عثمان ثالث الخلفاء الراشدين أول مصحف مكتوب لدى المسلمين، إذ جرت العادة على تناقل القرآن رواية بين حفظته منذ نزوله على الرسول صل الله عليه وسلم، حتى جاء عثمان وأراد أن يحتفظ بالقرآن مكتوباً، تفادياً للخطأ فى تلاوته، أو تعرضه للنسيان من جانب بعض القراء، أو على الأقل تعرضه للحن (أى عدم القراءة الصحيحة) عند التلاوة، ولذلك فأن لهذا المصحف مكانته عند المسلمين عامة، فهو بالإضافة إلى كونه الكتاب المنزل مسجلاً كما كان يقرأ فى أيام الرسول والصحابة الأول، فأنه يعتبر أثراً من الآثار الهامة لدى المسلمين عامة.
ولقد آل المصحف منذ فتح آسيا الوسطى إلى المسلمين هناك، وظل محفوظاً فى سمرقند فى جامع "خوخا أحرار" الشهير، وعندما تم للقيصرية الاستيلاء على تلك المناطق أمر قائد قواتهم بالاستيلاء على المصحف، ونقل إلى القيصر فى بطرسبرج (لينجراد حالياً) حيث استقر فى نهاية الأمر فى المكتبة الأمبراطورية العامة، وحاول المسلمون مراراً وتكراراً بكل الوسائل مع القيصرية أن يعاد هذا الأثر الدينى الوحيد إليهم، فلم يفلحوا ولم تلتفت القيصرية بتاتاً إلى رجائهم وملتمساتهم.
وفى ديسمبر 1917، أى فى حدود شهرين من الثورة، توجه مؤتمر منطقة بتروجراد القومية إلى لينين بالطلب أن "يستجيب إلى مشاعر المسلمين الروس" وأن يعيد لهم "مصحف عثمان المقدس"، وفى الحال استجاب لينين إلى المطلب ووجه خطاباً إلى قوميسير الشعب للتعليم أ.ف. لوناشارسكى يقول فيه أن مجلس قوميساريى الشعب قد قر أن يسلم مصحف عثمان المقدس المحفوظ حالياً فى المكتبة العامة للدولة إلى المؤتمر المحلى للمسلمين دون إبطاء، ويرجى منك إصدار القرارات الملائمة فى هذا الصدد".
وتم التنفيذ على الفور، وحفظ المصحف فى أول الأمر فى مدينة أوفا، ولكن عندما عقد المؤتمر الأول لمسلمى آسيا الوسطى وكازاخستان فى طشقند، نقل المصحف إلى هناك وتم عرضه للجماهير حيث زاره عشرات الألوف للمشاهدة، وفيما بعد وعندما ثبت بالدراسة العلمية أن المصحف نظراً لطول عهده بالحياة، إنما يحتاج ليظل محتفظاً برونقه وبهائه ، إلى أن يوضع فى مكان خاص مكيف الهواء حتى لا تؤثر عليه تغيرات درجة الحرارة، وفى هواء معقم حتى لا تتأثر أوراقه ومداده بالبكتريا وغيرها من الطفيليات، تم نقله إلى المكتبة المحلية حيث تتوفر هذه الأجواء، ويظل معروضاً للجماهير، وفى نفس الوقت تم تصويره بمختلف الوسائل الفنية، لتكون منه صور عديدة تعرض فى مختلف الأماكن، وتؤرشف فى نفس الوقت مفاداة لهذا الأثر من الكوارث الطبيعية والحروب وغيرها.

  ترميم الآثار وإحياء التراث
يؤمن الفكر الاشتراكى بأن الحضارة فى أى حقبة من حياة البشرية إنما هى امتداد ونتاج طبيعى للحضارة القومية السابقة لأى شعب من الشعوب، وأن هذه الأخيرة فى تطورها نحو الاشتراكية كنظام اقتصادى واجتماعى، لا تبدأ من فراغ، ولا تقطع الصلة بينها وبين ماضيها، بل يجب أن يكون هذا التطور الجديد مرتبطاً بالتطور السابق، نابعاً من حيث انتهى ومضيفاً إليه، بحيث ينتقل المجتمع انتقالا طبيعياً، وفى أكبر اتساق ممكن مع المعطيات الموضوعية التى أوجدتها آلاف السنين السابقة من حياة الشعب.
والكل يعلم أن المعتقدات الدينية تلعب دوراً كبيراً فى تشكيل حياة الشعوب، ونظرتها إلى الأمور، وحقيقة أنه تنهض الكثير من الأدلة، وفى عدد كبير من البلدان، على أن الدين كان دائماً ما تستغله الرجعية وأعداء التقدم ضد تطلع شعوبها إلى حياة أفضل، فتنشر بين الجماهير من تعاليم الدين ما يمكن أن يساعد على بقاء سلطانها، وتركب الصعب من أجل إعطاء التفسيرات الملائمة لصالحها لما يجىء فى الكتب المقدسة أو فى أقوال الرسل أو سير حياتهم، ولكن، مع الأسف، تظل الحقيقة قائمة، بأن الدين يلعب دوره فى تشكيل نظرة الإنسان إلى الحياة، ويظل بسبب كونه عاملاً فى ضمير المرء يمثل منطلقاً للعديد من اتجاهاته الفكرية، ولعاقته بسائر البشرية، وقبوله لمختلف القيم، وبالإضافة إلى هذه الحقيقة، فأن هناك حقيقة أخرى تظل لها قوتها وقيمتها، إلا وهى أن الدين إذا تخلص من سيطرة أصحاب المصالح ومحاولتهم تسخيره لمصالحهم فأنه فى يد الطبقات المغلوبة على أمرها، لن يكون إلا دعوة للعدالة الاجتماعية، والمساواة بين الناس فى الحقوق والواجبات، ودعوة إلى التمسك بالخير -خير المجموع- ما استطاع الإنسان إليه سبيلا، فتلك رسالة الأديان جميعاً.
وانطلاقاً من هذا، فلم يكن يمكن أن ينتظر من الثورة الاشتراكية إلا أن تأخذ هذا كله فى الاعتبار، وأن تقف من الدين -رغم دعوتها بفصله عن الدولة- موقف الاحترام، بل والرغبة فى أن تتيح الفرصة لشعوبها- وعلى الأخص طبقاتها الكادحة- لأن تستخلصه كسلاح من أيدى أعدائها ليكون سلاحاً قوياً لتحقيق مصالحها.
وبناء على ذلك، ومنذ السنوات الصعبة الأولى لقيام الدولة الاشتراكية، حين كانت أربع عشرة قوة كبرى تشن حرباً لا هوادة فيها ضد الجمهورية الفتية للعمال والفلاحين، خصص لينين مؤسس الدولة من الوقت والفكر والجهد ما يسمح له بالنظر فى أمر المحافظة على وصيانة كل الآثار المعمارية الإسلامية، وعندما أبلغ بالوضع الذى آلت إليه ذات السمعة العالمية فى سمرقند، قرر على الفور تخصيص المال اللازم لإصلاحها وإعادتها إلى سابق عهدها، وصدر قرار الدولة السوفيتية فى 5 أكتوبر 1918 -أى بعد أقل من عام من الثورة- مطالباً بضرورة "المحافظة على، ودراسة، والتعريف الكامل للشعب بكنوز الفن والآثار".
وكانت تلك هى البداية نحو عمل جاد فى ترميم وصيانة جميع الآثار الإسلامية، وشهدت السنوات التالية إعادة قبور العديد من السلف الصالح إلى سابق عهدها مثل شاه زندا، وجور أمير، فى سمرقند، وقبر سانجارا فى تركمانيا وغيرها، وأعيد ترميم وافتتاح المدارس الإسلامية الشهيرة فى ميدان راغستان بسمرقند، عدا المدارس الأخرى مثل مدرسة أولوج بيك، ومدرسة مير عرب، ومدرسة باروخان وعديد آخر من الجوامع التاريخية مثل جامع كالان الشهير بمئذنته التى ترتفع خمسين متراً عن الأرض، وتذهب الأمور إلى أبعد من ذلك، إذ تقرر جمهورية أوزبكستان السوفيتية تحويل كامل مدينة حيفا بعديد جوامعها الجميلة ومدارسها إلى مدينة أثرية متكاملة، وتظل حتى اليوم عديد من الآثار المعمارية الإسلامية تحت رعاية الدولة التى تخصص لها مبالغ طائلة للمحافظة على تلك الآثار.
****
أما فى مجال إحياء التراث فلا تدخر الدولة جهداً، كما تبذل الإدارات الإسلامية للمسلمين قدر استطاعتها للمحافظة عليه وجعله فى الصورة التى يستطيع أن يستفيد منها كل المؤمنين، فلقد ثابرت الإدارة الدينية لمسلمى آسيا الوسطى وكازاخستان على جمع ودراسة أكثر المخطوطات وكتب السلف قيمة، سواء فى بلادها أو خارجها، فيما يتعلق بالتعاليم الإسلامية والشريعة، وتحتوى مكتبتها على 25,000 مجلد من الكتب، 2000 مخطوط يرجع بعضها إلى عهود سحيقة فى القدم، وأول ما تعتز به المكتبة هو نسخة من مصحف عثمان الذى يحتفظ به تحت الظروف الملائمة فى المتحف التاريخى لأكاديمية العلوم فى أوزبك كما سبق أن أشرنا.
ومن بين ما تحوى المكتبة المخطوط القديم لعبد الكريم بن خافازين أبو القاسم القشيرى فى شرح القرآن والمعروف بأسم "لطيف العشورات" والذى يرجع إلى القرن العاشر الميلادى (الرابع الهجرى)، وتعتز المكتبة بمجموعتها من المصاحف، ومن بينها ما يمثل مخطوطاً أوحد منذ قرون مضت حتى آخر طبعاته سواء ما صدر فى الأتحاد السوفييتى أو خارجه، وقد يشار من بين هذه المجموعة إلى مخطوط نادر للخطاط إسماعيل المبارك والذى كتبه عام 665 هجرية فى بخارى، والذى يتميز بحروفه الكبيرة، وبترجمته كلمة بكلمة إلى الفارسية، ومن ثم يعتبره الخبراء أقدم تراجم القرآن إلى لغة غير عربية، كما تحوى المكتبة نسخاً من القرآن باللغات الإنجليزية واليابانية وغيرها.
وبالإضافة إلى (لطيف العشورات) تحوى المكتبة التفسير المعروف لمحمود الزمخشرى، والمسمى "تفسير الكشاف" والذى يرجع إلى القرن الحادى عشر الميلادى (الخامس الهجرى)، ولدى المكتبة واحد من أقدم المخطوطات عن هذا الكتاب منذ القرن الثالث عشر، وكذلك تحتفظ بكتاب "تفسير بحر الأمواج" الذى كتبه القاضى شاه أبو الدين هندوستانى الذى توفى عام 848 ميلادية، وغيرها العديد من المخطوطات.
****
 تطوير الجمهوريات الإسلامية
كانت جماهير المسلمين تعانى فيما قبل الثورة عن نوعين من الاستغلال، أحدهما عن طريق القيصرية وسندها الكنيسة الأورثوذكسية، والثانى هم الأمراء والبكوات والخانات الحليون والقلة التى تعلقت بركابهم من رجال الدين المسلمين، ولذلك فقد بقيت على درجة بعيدة من التأخير سواء فى تطورها الاقتصادى أو الاجتماعى أو السياسى، ويكفى أن تقوم بينهم -وحالتهم على هذا الوضع- ثورة اشتراكية تزيل سيطرة الإقطاع ورأس المال سواء الخارجى عنها أو الداخلى من بينها، وتحرر الإنسان فى حياته الإنتاجية، لندرك كم سيكون أثرها على الجماهير التى طال استغلالها.
وإذا حاولنا هنا أن نفاضل بين الوضع فيما قبل الثورة، وما تطور إليه بعدها لا تسع بنا المجال، ودخلنا فى تقييم إنجازات الثورة الاشتراكية -كمثال لأى ثورة مماثلة- فى مقابل المجتمع الرأسمالى شبة الاقطاعى الذى كان يعيشه المسلمون، وهو ما قد يخرج بنا عن رسالة هذا الكتاب، ولكن يكفى أن نذكر فى هذا المجال أن التطور الذى شمل الاتحاد السوفييتى بجمهورياته المختلفه سار بنفس الخطى فى الجمهوريات الإسلامية بحيث قد أصبح فى كل منها القاعدة الصناعية الضخمة التى تتفق مع ثروات البيئة المحيطة، والزراعة الحديثة المميكنه القائمة على الترشيد العلمى، والثروة الحيوانية التى تتضاعف كما ونوعاً على أسس من الدراسة والاختيار بين السلالات، واستصلاح الأراضى  الصحراوية الواسعة التى تتميز بها جمهوريات آسيا الوسطى، بل وتحويل البحيرات الصناعية، إلى آخر مختلف الانجازات التى نقلت الاتحاد السوفييتى عامة من دولة متأخرة عن كل أوربا تقريباً فيما قبل الثورة، إلى ثانى قوة صناعية وتكنولوجية فى العالم، بل وتفوق أمريكا فى العديد من المجالات، لقد نالت الجمهوريات الإسلامية نصيبها الأوفى من التقدم على جبهة التطور، الأمر الذى ولا شك ينعكس أثره على حياة الجماهير، وبالتالى لابد أن يكسبها.
وربما لو اتجه بحثنا إلى بعض الجوانب فى الحياة اليومية للمسلمين وفى نوعية وكم الخدمات التى تقدم لهم، لأمكن أن نستنتج منها صورة موقف الثورة الاشتراكية منها.
لقد كانت نسبة التعليم فى جمهوريات المسلمين تتراوح بين 0,5 إلى 2%، ومع هذا لقد تم منذ سنوات عديدة القضاء على الأمية قضاءاً تاماً، بل وتتفاخر الأسر الإسلامية حالياً بأنه لا يمكن أن توجد أسرة واحدة تخلو من شخص ذو تعليم عال أو متوسط، إن كل طفل ومنذ أن يبلغ السابعة من عمره ينخرط فى سلك التعليم الإلزامى الشامل لمدة سبع سنوات ليقف على عتبه المرحلة الثانوية، وإن كانت لدى أى منهم الرغبة والقدرة لتطوير المعارف والاتجاه إلى التخصص فأنه يستطيع الانخراط فى مؤسسة دراسية عليا أو متوسطة، فى معهد أو جامعه، حيث تقدم الدولة المنح الدراسية لطلاب هذه المستويات أثناء الدراسة، وتؤمن مساكن للغرباء منهم، كما يتمتعون ببطاقات مواصلات مخفضه، وليس غريباً بعد ذلك أن يؤدى تطور التعليم فى كل هذه الجمهوريات إلى أن تتمتع الآن كل منها بجامعة على الأقل، وأكاديمية خاصة للعلوم، مع انتشار واسع لمعاهد ومؤسسات البحث العلمى.
لقد مضى زمن طويل منذ كانت الأغلبية الساحقة من أبناء المسلمين يقضون حياتهم إما أشباه عبيد لدى ملاك أو رعاه لقطعان هزيلة تجوب الصحراء بحثاً عن قليل الكلأ والمرعى، أو منكبون بحكم كبر السن والضعف على عدد من الحرف المحلية، التى وإن كانت لها شهرتها، إلا أنها لم تكن تؤتى ما يقيم أود الحياة، لقد مضى ذلك الزمن وأصبح فى حكم التاريخ البعيد، وبدلا منه أصبحت الصحف المحلية، وملصقات الشوارع والميادين تعج بالإعلانات عن فرص عمل جديدة، والحاجة إلى تخصصات علمية مختلفة، بحيث قد تغير تماماً شكل العمل والإنتاج وانتقل من صورة القرون الوسطى إلى أعلى مستويات القرن العشرين، ويسير مع إتاحة فرص العمل المتقدمة والتى قضت على كل الصور القديمة، تمتع الجماهير بمختلف القوانين الاجتماعية، من كفالة حق العمل لكل مواطن، والضمان المادى عند العجز، أو عدم القدرة على العمل، وأثناء المرض، وحق الأجازة المدفوعه الأجر، والعلاج الطبى الكامل.
أما فى شأن الرعاية الصحية للمواطنين، فكأنما لم تكن فى الحسبان لدى الحكم القيصرى، فأضافة إلى الارتفاع الفاحش لتكلفة العلاج لم يكن موجوداً فى جمهورية تركمانستان بمساحتها البالغة 488000 كيلومتر مربع، والتى تساوى فى مساحتها كلا من بريطانيا وألمانيا الغربية مجتمعتين أكثر من 56 طبيباً، 139 مساعداً طبياً، كما لم يكن فى أوزبكستان التى يقطنها 4,500,000 نسمة أكثر من 128 طبيباً ويمكن قياس باقى مناطق المسلمين، على هذا الأساس والنتيجة كانت بالطبع انتشار الأوبئة بحيث تبلغ حصيلتها عشرات الآلاف من السكان فى كل عام، وارتفاع نسبة وفيات الأطفال إلى ثلث عددهم خلال السنة الأولى من حياتهم، وقد تطورت أوضاع تلك المناطق إلى ما يغاير تلك الصورة تماماً، فسكان تركمانيا الذين يبلغون 2,000,000 حالياً يرعى شئونهم الطبية 4400 طبيباً بما يعنى أن هناك 21,5 طبيب لكل 10,000 من السكان، أما فى أوزبكستان وحيث يبلغ تعداد السكان 12 مليوناً، فهناك 20,000 طبيب، وأكثر من 60,000 مساعد طبى بما يعنى أن هناك فى المتوسط طبيباً لكل 600 من المواطنين، كما يوجد بتلك الجمهورية 3 معاهد طبية عليا، ومعهد صيدلى عالى، 18 مدارس طبية ثانوية تتولى تموين الجمهورية باحتياجاتها من تلك التخصصات، والنتيجة أن لدى جمهوريات الشرق السوفييتى الآن من الأطباء لكل ألف من السكان عدداً أكبر مما يوجد فى أكثر بلاد العالم الرأسمالى تقدماً، وإذا ما أضيف إلى ذلك كون العلاج مجانياً فى جميع مستوياته ومراحله، أمكن إدراك التغير الشامل الذى تم ناطق المسلمين التى لم تكن تجد الطبيب، وإن وجدته فلن يتوفر لجماهيرها أجره أو أجر العلاج، مما جعلها فيما قبل الثورة الاشتراكية نهباً لأهل الدجل والشعوذة وأدعياء الطب.
****
وإذا كان التقدم يقاس أحياناً بمدى ما يصل إليه فى حياة المرأة، فان الصورة هنا كذلك تعكس طفرة كبرى بين أوساط المسلمين، ففى جمهورية التتار الاشتراكية السوفيتية والتى لم يكن بها عملياً قبل الثورة الاشتراكية إمرأة واحدة ذات تعليم ثانوى، ناهيك بالتعليم العالى، تصل نسبة المرأة بين الأخصائيين حالياً إلى 60 % فى المتوسط، تجدهن موزعات بنسبة 25% بين المهندسين، 38% بين أخصائى الزراعة وتربية الحيوان والطب البيطرى، 71,3 فى التعليم، 88,4% فى الرعاية الصحية، كما تحتل المرأة 35% من بين مقاعد ممثلى الجمهورية فى مجلس السوفييت الأعلى، وتصل نسبتها إلى نصف ال 28,598 مقعداً فى أجهزة الحكم المحلى وممثلى سوفيتات جماهير العاملين.
وفى جمهورية تركمانيا، وحيث لم يكن ممكناً أن توجد قبل الثورة الاشتراكية أمرأة واحدة متعلمة، وهناك عشرات الألوف اليوم يعملن بنجاح فى مختلف نواحى النشاط الإقتصادى، هناك حوالى 40,000 منهن حصلن على تعليم عالى أو ثانوى متخصص، يمثلن 44% من عدد الأخصائيين بالجمهورية، وهناك أكثر من 3000 إمرأة فى مناصب إدارية عليا فى المصانع والمزارع الجماعية والمكاتب، وفى عام 1967 كان هناك تسعة منهن فى مناصب الوزراء ووكلائهم، كما لهن -بالانتخابات طبعا- ثلث مقاعد السوفيتات المحلية.
وليس متصوراً أن تصل المرأة إلى مثل هذه الدرجة من التقدم إلا إذا كان نفس القدر وأكثر قد تحقق للرجال بالطبع، وإلا إذا كانت الدولة قد وفرت كل الرعاية اللازمة لأبنائهن فى دور الحضانة التى تتسع بالفعل لجميع أبناء النساء العاملات فى كل المواقع وتدفع الدولة معظم تكاليفها، وإلا كانت الحياة المنزلية قد ارتقت إلى مستوى الاعتماد على وسائل الحياة الحديثة خفضاً للجهد فى المنزل على الأم العاملة.
هذا ولم يكن اضطهاد المرأة فيما قبل الثورة الاشتراكية مقصوراً على إبقائها فى دائرة الجهل المطبق وغيرها من مظاهر المجتمع المتخلف، بل كان يمتد إلى ممارستها للعبادة الدينية ذاتها، بحيث لم يكن متاحاً لهن أن يغشين المساجد أو أن يستمعن للدروس والمواعظ الدينية، أما اليوم فأنه يمكن أن تشاهد أعداد كبيرة منهم فى المساجد فى موسكو، وليننجراد، وكوييشيف، وأورنبرج، وتاتاريا، وبشكيريا، وأذربيخان، وكازاخستان، وأوزبكستان ومناطق أخرى حيث يؤدين الصلاة ويستمعن إلى دروس الدين إما فى غرف مخصصة لهن بالمساجد، أو فى أجزاء منها منفصلة عن باقى مساحة الجامع.
****
وبعــــد:
فأن تاريخ المسلمين فى جمهوريات الاتحاد السوفييتى مع الثورة الاشتراكية شاهد انتقالا جذرياً من ظروف ما قبل الثورة إلى أوضاع جديدة تماماً بعدها، من اضطهاد للعقيدة، وعدم الحرية فى ممارستها، وعدم إمكان الدعوة لها، إلى اعتبار حرية العقيدة ضمانه أساسية للحياة، وإتاحة كل الحرية لممارستها، والدعوة لها.
ومن سيطرة لأحد الأديان على باقيها، تسخر الدولة لخدمته، وتشكل القوانين بما يلائمة، إلى إزالة هذه السيطرة بتاتاً، وتساو بين الأديان جميعاً، ومن عنت وإرهاق فى التعيين فى الوظائف أو القبول بالمدارس إن لم يكن الفرد من اتباع العقيدة المسيطرة، إلى وضع لا يسأل فيه المواطن عن عقيدته على اعتبار أن ذلك أمر يخصه تماماً، وتثبيت القواعد التى تحرم أى تفرقة فى المعاملة أو المزايا على أساس العقيدة.
ومن أوضاع تردت فيها أماكن العبادة، ومقار ممارسة الحياة الروحية، وتداعى الكثير منها حتى تكاد تذروه الرياح، إلى ترميم لجميع الآثار والمعابد دون استثناء، واستعادة لكل المقدسات عند المسلمين.
ومن كل ظروف الحياة فى مجتمع متخلف بما يعنية ذلك من انخفاض مستوى المعيشة إلى أقل من الكفاف، وأمية متفشية، ورعاية صحية تكاد تكون معدومة، وضمانات اجتماعية ضد البطالة وأخطار العجز وعند الشيخوخة لا يسمع القوم بها ناهيك عن ممارستها، ومعدلات لوفيات الأطفال من بين أعلاها فى العالم، وحياة ثقافية معدومة تماماً، وغيرها من كل مظاهر التخلف إلى كل مظاهر الحياة فى مجتمع حضارى متقدم بكل ما يعنية من صناعة متقدمة، وزراعة علمية، وثروة حيوانية نامية، وكل الضمانات ضد البطالة والمرض والعجز والشيخوخة، وثقافة تعنى بالقديم وتحيية وتكسب من الجديد كل مظاهره سواء فى المسرح والسينما والفنون التشكيلية والفولكورية -وهكذا.
وإذا كان ذلك ما أتت به الثورة -وهو إذا شئنا الحصر كان صورة صاروخية للتقدم -وكان ذلك هو التغير الذى حدث فى حياة المسلمين الروحية والمادية، فأن الإجابة على أى تساؤلات سواء فى علاقاتهم بالثورة والمجتمع الاشتراكى، أو فى حرية العقيدة والممارسة أو غيرها، تصبح معروفة على الفور وليست بحاجة إلى إيضاح.
ويصبح أهم ما فى الصورة هو صدق ذلك النفر من زعماء المسلمين الذى رفع صوته منذ أوائل القرن الحالى بأنه لا يمكن أن يكون هناك تعارض بين الدين والاشتراكية بل أن تعاليمها من عدالة اجتماعية ومساواة بين الناس وتطوير الحياة البشرية هو مما لا يمكن أن يدعو الدين لغيره. 

الفصل الثالث: الحياة الروحية للمسلمين


عرضنا فيما سبق لدخول الإسلام بعض جمهوريات الاتحاد السوفييتى وتطوره من فترات ازدهار آتت ثمارها بهذا العدد الوفير من العلماء الأوائل الذين لم تقتصر جهودهم على نشر الإسلام وتعاليمه فى بلادهم وبين أهليهم فحسب، بل بلغ من ارتفاع كعبهم وفيض علمهم أن صار ما كتبوا من حديث وتفسير وغيرها مراجع المدى المسلمين فى بقاع الأرض كافة ورأينا كيف خبا ذلك النور الساطع وسط ظلام حكم القيصرية، وما تعرض له المسلمون من ضغط وإرهاق نتيجة سيطرة الكنيسة الأورثوذكسية، ودأبها على دفع الدولة إلى ملاحقة اتباع الديانات الأخرى، فضلا عن عدم الاهتمام بشئونها حتى كادت الآثار الإسلامية جميعاً تندثر، والمخطوطات تتبعثر وتتلف، ومدارس اعداد الدين تغلق، حتى لم يبق من هؤلاء ويعلو صوته إلا ذلك النفر الذين باعوا إيمانهم للشيطان، وعاشوا يدعون إلى ما يبقى على حكم الإقطاع والقيصرية، ويقدمون من الفتاوى ما يرهب المسلمين عن أن يطلبوا تغييراً، أو أن يتطلعوا إلى جديد.
وعرضنا للثورة الاشتراكية وموقفها الفكرى من الأديان عامة، وكيف كان إزاحتها لسيطرة الكنيسة بمثابة إزالة حجر عثرة ظل يضغط على صدور المسلمين قروناً عديدة، وكيف احترمت عقيدتهم ومقدساتهم وبذلت الجهد لترميم الآثار وإحياء التراث، ثم فى النهاية كيف تغيرت كيفياً الحياة المادية التى يحياها المسلمون، وانتقلت بهم من مختلف القرون الوسطى إلى أرحب آفاق القرن العشرين.
أن هذا كله لابد وأن يثلج صدر كل مؤمن غيور إذ يرى إخوة له فى العقيدة، وقد تحرروا من ذل الحاجة، وبعدت الشقة بينهم وبين العوز، وتحولت حياتهم من قلق لما سوف يكون فى الغد، إلى اطمئنان فى العيش حتى ما بعد الغد، وحتى يأذن الله لهم بعلاقاته.
ولكن ذلك المؤمن ذاته قد يقلق ويتساءل، وماذا بعد؟.. ماذا بعد أن أستقر بالناس العيش؟ هل سوف تنسيهم الدنيا أمور الدين؟ وهل، والدولة علمانية، سوف تذهب أمور المسلمين أدراج الرياح؟ ماذا يكون من أمرهم إذا احتاجوا جامعاً للصلاة، وكيف سيعرفون تقويم العام حسب دينهم، وهل سيعرفون وتعترف الدولة بأعيادهم، وبعاداتهم وتقاليدهم، وما يفرضه عليهم دينهم؟ وسوف تترى الأسئلة واحداً وراء الآخر، وكلها قلق على حياة المسلمين الروحية رغم أنه قد اطمئان على حياتهم المادية.
ولن يكن هناك ما يشفى غليله، ويرد إليه الطمأنينة إلا إذا عرضنا لكيفية ممارسة المؤمنين شعائر دينهم وعبادتهم كما هى، وكما شاهدها وأقر بها العديد من أئمة المسلمين وعلمائهم والذين سوف نخصص لشهادتهم الفصل الأخير.


كيف تتكون الجماعات الدينية:
 لما كانت الدولة فى نظامها، من حيث هى دولة، علمانية ينفصل فيها الدين عن الدولة فأنها لا تمارس أى نشاط من جانب الأجهزة الحكومية ذاتها فى تكوين أى جماعة دينية أو مجرد تشجيع التكوين، ولكنها من جهة أخرى لا تقيم أى عقبة تكوين أى جماعة أو طائفة.
فأنه لتسجيل أى طائفة دينية، يكفى أن يوقع عشرون شخصاً فحسب من سكان أى مدينة أو قرية أو أى مكان آهل بالسكان على كتاب لجهات الحكم المحلى برغبتهم فى وإعلانهم تأسيس طائفة دينية، لتحصل الطائفة على الاعتراف القانونى بها مباشرة.
وبالطبع يترتب على هذا الاعتراف عديد من الحقوق للطائفة وواجبات يجب أن تلتزم بها، فهى ملزمة باحترام النظام الأساسى للدولة، وألا تمارس أى عدوان على حقوق الآخرين فى اعتناق ما يرون من عقيدة، وألا يكون بين شعائرها ما تحرمه الأخلاق العامة مثل ما سبق الإشارة إليه عن الطوائف التى تمارس العهر أو العادات الشاذة المنافية للأخلاق والآداب العامة، وأن تمكن كل المؤمنين بعقيدتها من ممارسة شعائرهم دون تفضيل أو تمييز وهكذا، ويترتب لها من الحقوق على الدولة تهيئة الحصول على البيانات اللازمة للصلاة وأداء الشعائر، كما تعطى الدولة مجاناً كل الأدوات الدينية الموجودة لديها والأجهزة الضرورية للبناية.
وإذا لم يكن فى هذه المنطقة أو تلك بنايات خاصة للصلاة -جامعاً أو كنيسة أو غيرها- كان للمؤمنين المنضمين للطائفة الحق فى أن يستأجروا أو أن يقيموا بناء خاصاً حسب حاجتهم.
وعند هذا الحد تنتهى صلة الطائفة بالدولة بتاتاً إلا فيما يمس القانون والنظام العام، فالطائفة ليست مطالبة مثلا بأن تبلغ أحداً عن أسماء أتباعها، أو أن تستأذن أحداً فى ممارسة شعائرها، أن الطائفة مسئولة تماماً أمام جمهورها هى فحسب عن قيامها بواجباتها، ولأتباع الطائفة أن يضعوا هم القواعد المنظمة للممارسة الروحية للمؤمنين، وأن تنشئ من بين أعضائها أجهزة لقيادة أو متابعة مختلف أوجه نشاطها، ولها أن تجى الاشتراكات والتبرعات من أتباعها -التى تعفيها الدولة بدورها من الضرائب- وأن تهيئ الوسائل لإعداد القائمين على نشر دعوتها، أن لها أن تنشئ المدارس وتهيئ الوعاظ والمطارنة والشمامسة، وأن تطبع وتوزع منشوراتها التى تدعو لها، كما أنها حرة تماماً فى قضايا العلاقات مع الطوائف الأخرى سواء فى الداخل أو فى الخارج.
ويحدد القانون السوفييتى حقوق وواجبات الطوائف فيما يلى:
(أ) إقامة الصلاة والاجتماعات والشعائر المرتبطة بالعبادة.
(ب) تعيين أو انتخاب الأئمة (يمعناها لكل الطوائف) وسائر الأشخاص اللازمين لرعاية الاحتياجات الدينية.
(جـ) استعمال وإدارة أماكن العبادة وسائر متعلقاتها.
(د) أن تجمع الهبات فى أماكن الصلاة لإعاشة الأئمة وصيانة دور العبادة ومتعلقاتها وسائر أنشطتها.
(ه) أن تكون لها الأختام والطوابع والمطبوعات التى تحمل إسم وشعار الطائفة.
وبالإضافة إلى تلك الحقوق التى لا حاجة للطائفة فى استئذان واحد بشأنها، فإن لها بالتنسيق مع الإدارات الحكومية تملك وسائل المواصلات التى تلزمها وأن تبنى وأن تستأجر الأماكن للأغراض الدينية وأن تدير وأن تصنع منتجات دينية، وأن تعقد المؤتمرات الخاصة بها.
وطبيعى أن تكون هناك إذن ضرورة للاتصال المنتظم بين المؤسسات الدينية وأجهزة الدولة، ولهذا أنشئ مجلس الشئون الدينية الذى يتبع الحكومة المركزية مباشرة، ولكن تنتشر فروعة فى كافة الجمهوريات والمقاطعات والأقاليم، ويتكون المجلس من ممثلين عن الأجهزة الحكومية، وممثلين للطوائف الدينية والدنيوية، كما يمنح جوازات السفر للوفود الدينية المسافرة إلى الخارج، وتأشيرات الدخول إلى الاتحاد السوفييتى لرجال الدين والأجانب.


التنظيمات الدينية للمسلمين

تسرى القواعد السابق طرحها على المسلمين شأن غيرهم من الطوائف وأصحاب العقيدة فيتولون بالكامل كافة أمورهم الدينية.
وفى الواقع تبدأ التنظيمات الدينية للمسلمين من المكان الأول الذى يجمعهم وهو المسجد، فالذين يؤمون مسجداً ما يمثلون جمهوره، وينتخب جمهور المسجد بينه ثلاثة من أخيار المؤمنين يسمون على مستوى المسلمين جميعاً "المتوليات" يمثلون مجلس إدارته ويديرون كل أمور الطائفة محلياً، ويتولون المسائل المالية، ويحافظون على المبنى ومتعلقاته ويمثلون جمهورهم فى علاقته مع الطوائف الأخرى والحكومة، وتطبيقاً للديمقراطية فعليهم أن يعرضوا دورياً على جمهورهم تقريراً عن نشاطهم وعن أحوال الطائفة ويخضعون لثقتها فيهم، وينتخب الجمهور بالإضافة إلى هؤلاء لجنة للرقابة المالية على حسابات الطائفة مسئولة كذلك أمامه، وتشهد الوقائع بأن ذلك النظام قد أدى إلى أن تغطى تبرعات المؤمنين كل المصاريف اللازمة، بل وأن توجد وفورات كافية كاحتياطى للمستقبل، وغنى عن البيان أن تحسن أحوال المعيشة للشعب بالاضافة إلى إيمان المؤمنين هما العاملان المسئولان على أن تكون حصيلة التبرعات على هذا القدر من الكفاية، ثم أن تفيض بحيث يرسل الفائض إلى المجلس الإسلامى الذى تتبعه المنطقة ليوجهه إلى ما فيه خير الطائفة كلها.
وطبيعى أن التاريخ الطويل للدين الإسلامى فى بلاد الاتحاد السوفييتى، وصور الازدهار التى سبق الإشارة إليها قد أدت إلى أن يتكون فى مختلف أجزاء البلاد فى الماضى التاريخى عدد من المراكز الدينية تشرف وتوجه حياة المسلمين، ورغم ذلك فقد أدى اضطهاد الكنيسة الأثوذكسية والقيصرية إلى ذيول هذه المراكز وانحلالها، وإلى تشتت رجال الدين بحيث لم يبق منهم إلا من سار سيرة أمراء الاقطاع الحاكمين عندئذ.
وكان على المسلمين وقد أعادت الثورة الاشتراكية لهم حقوقهم وحرية عقيدتهم، أن يعيدوا تنظيم صفوفهم، وأن يبدأوا العناية بطائفتهم وأمورهم وحياتهم الروحية، وسارت الأمور طبيعية فى مساجدهم ومراكزهم، ولكن كان لا بد أن يرقى التنظيم الدينى إلى أبعد من ذلك.




المجالس الإسلامية:

وفى شهر سبتمبر 1942 قام ممثلو كبار رجال الدين فى آسيا الوسطى بزيارة بولداش أخوبناييف، وكان يشغل فى ذلك الوقت منصب رئيس هيئة رئاسة مجلس السوفييت الأعلى فى جمهورية أوزبكستان الاشتراكية السوفييتية، وبدأ إيشان بابا خان بن عبد المجيد خان رئيس الوفد وممثل رجال الدين فى أوزبكستان فى مجرى الحديث الذى دار أثناء الزيارة يشرح كيف أنه "يوجد فى بلادنا عدد كبير من المساجد ورجال الدين، ولكن الشعائر الدينية تختلف فى شكل أدائها من منطقة إلى أخرى، كما أن الأعياد الدينية لا تراعى بشكل دقيق (أى فى نفس الوقت)، وليس هناك من يهتم باعداد رجال الدين المسلمين الجدد" وعبر فى النهاية عن أن المؤمنين الذين أزعجهم هذا الوضع يطالبون حكومة أوزبكستان بالسماح لهم بإقامة مركز إسلامى فى طشقند، وهيئة خاصة تتولى الاهتمام بكافة أمور المسلمين.
وصدر التصريح بتنظيم مركز إسلامى، كما قامت هيئة من رجال الدين المسلمين بوضع مشروع لائحة المجلس الإسلامى، واتخذت الاجراءات التنظيمية اللازمة للدعوة للمؤتمر الأول لممثلى المسلمين فى آسيا الوسطى وكازاخستان، وكان أهم ما اتخذ من إجراءات إحضار المصحف المقدس الخاص بالخليفة عثمان بن عفان رضى الله عنه، من أوفا -حيث كان محفوظاً منذ أمر لينين بتسليمه للمسلمين- إلى طشقند مقره المستمر السابق قبل أن تنقله القيصرية إلى بطرسبرج، وفى 20 أكتوبر 1943 بدأ المؤتمر الأول أعماله، وحضره 160 مندوباً من أوزبكستان، وطاجيكستان، وتركمانيا، وقرغيزيا، وكازلخستان إلى جانب عديد من الضيوف من الجمهوريات الأخرى، وقام المؤتمر بانتخاب هيئة رئاسة المجلس الإسلامى من سبعة أعضاء ومجلساً للإدارة، وكان أول إجراء يتخذه المجلس هو إقامة معهد دينى فى بخارى وتنظم الحج إلى الأماكن المقدسة الأمر الذى لم يتيسر تنفيذه إلا بخروج أول بعثه للحج بعد الانتصار على الغزاة الألمان.
ونظراً لاتساع الرقعة التى ينتشر فيها المسلمون فى الاتحاد السوفييتى واختلاف اللغات، بل واختلاف الليل والنهار، فقد انتهى الأمر بالمسلمين إلى تكوين أربع مجالس إسلامية يختص كل منها بمنطقة من المناطق، وهذه المجالس هى:
1- المجلس الدينى لمسلمى آسيا الوسطى وكازاخستان، ويشرف على الأمور الدينية للمسلمين فى أوزبكستان وكازاخستان وطاجيكستان وقرغيزيا وتركمانيا ومقره مدينة طشقند.
2- المجلس الدينى لمسلمى الجزء الأوربى من الاتحاد السوفييتى وسيبريا، ويشرف على الأمور الدينية فى منطقة شاسعة تمتد من أقصى شرق سيبيريا إلى لنينجراد غرباً، ومن أقصى الشمال حتى حدود بحر قزوين عدا القوقاز الشمالى وداغستان، ومقره مدينة أوغا بجمهورية بشكيريا.
3- المجلس الدينى لمسلمى المنطقة الواقعة خلف جبال القوقاز وتشرف على شئون المسلمين فى أذربيجان وجورجيا وأرمينيا ومقره مدينة باكو.
4- المجلس الإسلامى لمسلمى شمال القوقاز، ويشرف على الحياة الدينية للمسلمين فى داغستان وجمهورية كاباردينو -بالكاريا الذاتيه الحكم- وجمهورية تشتشينو -أنجوشيتيا الذاتية الحكم- وجمهورية أسيتيا الشمالية الذاتيه الحكم، وإقليمى كاراتشينفو تشيركيسيا واديجيسكيا الذاتيتى الحكم، ومقر المجلس فى مدينة بوينا كسك (داغستان).
ويرأس هذه المجالس شيوخ يحملون لقب المفتى، أما مجلس مسلمى ما وراء القوقاز فيرأسه شيخ الإسلام.
وينتخب أعضاء المجلس الإسلامى فى مؤتمر من ممثلى رجال الدين والمؤمنين، كما يضع المجلس دستوره ولوائحه الداخلية التى يجب أن يقرها المؤتمر، وتقرأ فى دستور أحدها فتجد فى مادته الحادية عشرة أن واجب المجلس هو نشر تعاليم الإسلام بين المؤمنين وقيادة أعمال رجال الدين، كما يحوى فى مادته التانية عشرة أن على المجلس أن يقدم بناء على هدى القرآن والحديث تفسير تعاليم الدين والشريعة، وأن عليه نشرها على كافة المسلمين فى منطقته، كما ينص على أن تكون كل أعمال الافتاء بتوقيع المفتى نفسه.
ولا يقتصر عمل المجالس الإسلامية على الإفتاء فى أمور الشريعة فحسب، بل أنها تمارس عدا ذلك عديداً من الأمور الدينية أهمها:
- تسجيل كل المساجد ودور الصلاة والجمعيات الدينية، ورجال الدين الإسلامى، بما فيهم هؤلاء الذين يمارسون النشاط الدينى فى الجمعيات، ومن توكل إليه أعمال فى إدارة المجلس.
- ترشيح وتعيين الأشخاص الذين يقومون بواجبات رجال الدين فى مناصب أئمة المساجد والمؤذنين، وذلك بعد اختبار وإقرار صلاحيتهم، ويحصل هؤلاء على شهادة بالصلاحية والتعيين بتوقيع المفتى ولا يسمح لهم بالعمل بدونها.
- عزل الأئمة والمؤذنين من مناصبهم إذا خالفوا أحكام الدين أو ارتكبوا ما يخل برسالة رجل الدين.
- النظر فى طلبات أو شكاوى المؤمنين أو رجال الدين من القضايا الداخلة فى صلاحيات المجلس.
- إصدار المطبوعات الدينية الضرورية.
- تعيين المحتسبين والقضاة المفوضيين عن المجالس الإسلامية فى المناطق.
- تقديم العون للمسلمين الراغبين فى الحج إلى الأماكن المقدسة.
- توزيع وإنفاق الأموال الواردة إلى صناديق المجالس الدينية.
وبالإضافة إلى المجالس الدينية الأربعة، توجد لجنة الإفتاء ومقرها موسكو، وتتكون من رؤساء المجالس الأربعة، حيث يجتمعون مرة أو أكثر فى كل عام لدراسة الموقف الشامل للمسلمين، كما تقوم لجنة الإفتاء بالأعمال الرئيسية الهامة، مثل إقرار طباعة المصاحف، وإصدار الفتاوى الشرعية فى الجلل الهام من الأمور التى تخص مسلمى الاتحاد السوفييتى جميعاً أو توحد الشعائر بينهم، أو فى قضايا خاصة مثل قضايا الشيعة والسنة.
وبالإضافة إلى لجنة الإفتاء، توجد لجنة الاتصال الخارجى لجميع المجالس الإسلامية، كما يوجد مجلس روحى أعلى للمسلمين يضم 50 شخصاً من العلماء والمتفقهين فى الدين، ويجتمع مرة كل خمس سنوات ويضم الجمعية الدينية الإسلامية ودار الشورى التابعة لها.


النشاط الروحى للمجالس الإسلامية:

لقد كان إنشاء هذه المجالس يمثل دفعة قوية للحياة الروحية للمسلمين فى جميع أجزاء الاتحاد السوفييتى، ويرأسها علماء أفاضل فاقت شهرتهم حدود بلادهم، وأصبحوا معروفين فى العديد من البلاد العربية، فالمجلس الإسلامية للجزء الأوربى من الإتحاد السوفييتى وسيبيريا يرأسه المفتى "الحافظ كلام الله شاكر ابن شيخ الإسلام خيالدينوف" والذى يعتبر اليوم كتابه "الدين والعقيدة" أحد المراجع الأساسية لدراسى الدين، والذى شارك فى العديد من المؤتمرات العالمية الإسلامية، أما المجلس الإسلامى لآسيا الوسطى وكازاخستان الذى يرعى الشئون الروحية لعشرة ملايين من المسلمين ينشرون فى خمس جمهوريات، وبالتالى فهو أكبر تلك المجالس، فيرأسه المفتى ضياء الدين خان بن ايشان بابا خان بن عبد المجيد خان والذى ينحدر من أسرة تولت الإفتاء أبا عن جد فى هذه المناطق، ويفخر المفتى الحالى بأنه قد حفظ القرآن كله فى سن الثالثة عشرة، ونال فى السعودية ميدالية لبراعته فى تلاوة القرآن، كما أدى فريضة الحج ست مرات، وهو شخصية إسلامية معرفوة ذو صلات نشطة مع كلية الدراسات الإسلامية بجامعة الأزهر، وهو بالإضافة إلى ذلك رئيس علماء المسلمين فى منطقته، وعضو فى لجنة السلام السوفييتية، وفى رئاسة لجنة التضامن الإفريقى الآسيوى، ورئيس قسم العلاقات الخارجية فى المجلس الإعلى للمسلمين فى الاتحاد السوفييتى، ويرأس المفتى المجلس الإسلامى لمنطقة ما وراء القوقاز فيرأسه شيخ الإسلام سليمان زادة على أغا سليمان أوغلى.
وقد نشطت المجالس بفضل قياداتها من جهة، وبفضل استمرار مراجعتها من جانب جماهير المسلمين التى تنتخبها فى مؤتمراتها من جهة أخرى، لحل جميع المشاكل الروحية التى تهم المسلمين كافة.
وكانت من أول المشاكل التى قابلت القيادات الدينية توحيد مواعيد الصوم والأعياد، وبيان مواعيد الصلاة، وعموماً كل التقويم الذى يهم المسلم، فالمسلمون يقطنون بلاداً مترامية الأطراف ولا يتيسر للعديد منهم للظروف الجوية أن يرصد القمر أو أن يتبين فى كثير من الأحيان مطلع الشمس وبزوغ الفجر، ولذلك استعانت المجالس بمعهد النظريات الفلكية الأكاديمية للعلوم السوفييتيه لتصدر سنوياً التقويم القمرى الذى يحدد المواعيد الهامة لدى المسلمين، فتصبح أعيادهم فى موعد واحد، وصلواتهم فى أوقاتها، وصيامهم فى المواعيد المحدده له، ويتعرفون على كل المناسبات الإسلامية كولد النبى صل الله عليه وسلم ونصف شعبان وليلة الإسراء والمعراج وهكذا.
وأشرفت على تنظيم بعثات الحج السنوية إلى الأراضى المقدسة وتنظيم لقاء المسلمين خلاله بأخوانهم فى البلاد الأخرى، وأتاحت لهم بهذا أن يحيوا تقليداً عندهم وذلك باحضار مياه زمزم وإهداء القليل منها لأحبابهم وأفراد أسرهم.
أما المجلس الإسلامى لآسيا الوسطى فتتسع دائرة نشاطه عن غيره باعتبار العدد الأكبر والكبير من المسلمين الذين يقعون تحت رعايته، ولذلك يحوى عدداً من الإدارات لكل مسئوليتها ونشاطها، فمنها إدراة النشر وأخرى لتدريب رجال الدين وثالثة للعلاقات الخارجية، ورابعة للآثار الإسلامية.. وهكذا.
وإذا راجعنا بعض أعمال إدارة النشر لا تضح مدى الجهد الذى تقوم به فى نشر العقيدة وتثبيتها لدى المسلمين.
لقد طبع القرآن قبل الثورة الاشتراكية عدداً من المرات وبخطوط مختلفة منها طبع بخارى الذى كان بخط النسخ المعروف فيما وراء النهر، وفى عام 1914 طبع مرة أخرى فى طشقند بكتابة الخطاط الشهير فى عصره ميرزا هاشم الخوجندى، وبناء على رغبة المسلمين رأت الإدارة فى عام 1955 أن تؤلف لجنة خاصة لاختيار نسخ من المصاحف، واختارت عندئذ نسخة طبعت بمدنية فازان عام 1908 فجرى طبع المصحف على أساسها، وفى 1961 اختارت اللجنة أن تعيد طباعة القرآن على أساس النسخة التى اعترفت بها مشيخة الأزهر الشريف، وفى مناسبة الاستعداد للاحتفال بمرور 14 قرناً من الزمان على نزول القرآن الكريم، قررت اللجنة إجراء طبع جديد واختارت أن يكون الأصل هذه المرة المصحف المطبوع فى طشقند بخط ميرزا هاشم السابق الإشارة إليه بعد التصحيح والتهذيب الدقيق من طرف أشد قراء وحفاظ أوزبكستان، وتم طبعه فى عام 1969 بحجمين صغير وكبير بمطبعة الدولة فى طشقند.
ولمناسبة مرور 1200 سنة على مولد إسماعيل البخارى المفكر الإسلامى الكبير، أصدرت الإدارة كتابة "الأدب المفرد" بمقدمة من المفتى إحياء لتعاليم هذا العالم الكبير، كما أصدرت فى نفس الوقت تقريباً كتاباً لإسماعيل مخدوم ستييف نائب رئيس الإدارة الدينية عن "مصحف عثمان".
ولعل أكبر مساهمة فى التعريف بالدين تقوم به تلك الإدارة هو إصدارها لمجلة "مسلمو الشرق السوفييتى" باللغتين العربية والأوزبكية، وبلغ نجاحها فى داخل الاتحاد السوفييتى وخارجه درجة كبيرة جعلت الإدارة تدرس بناء على طلب القراء إصدارها باللغات الفرنسية والإنجليزية كذلك، ولعل مراجعة لبعض ما جاء بأعداد مختلفة من تلك المجلة تبرز أسباب نجاحها الواسع فى رسالتها.
ففى تقديمها للقراء فى عددها الأول يحدد المجلس الإسلامى هدفها بأنها مجلة إسلامية تعنى بالعرض الأمين لحياة المسلمين فى آسيا الوسطى وباقى الاتحاد السوفييتىوصلاتهم بالعالم، وتقوم بالتعليق والشرح على مقتطفات من القرآن والحديث لنشر المعرفة المصادقة بأمور الدين، كما تعالج الأمور المتصلة بالحياة الروحية للمسلمين، وتنقل إليهم أخبار التقدم فى الحياة الاقتصادية والثقافية كذلك.
وقد صدق المجلس فيما ذكر، أو صدق محررو المجلة فيما كان عليهم أن يقوموا به، ففى عددها الأول تقدم مقالا عن الذكرى ال 1400 لنزول القرآن الكريم، ومغزى نزولة على الرسول، وما أراد الله من عبادة بهدايتهم على يد سيدنا محمد، وفى العدد الثانى تقرأ مقالا بقلم المفتى ضياء الدين عن حياة وتعاليم الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان مؤسس المذهب الحنفى فى الإسلام، وتشعر من القراءة كم يقدر المسلمون هناك هذا الإمام من أئمة المسلمين ويتبع معظمهم مذهبه، ولكن يلحق بهذا فى عدد آخر مقال عن حياة الإمام محمد بن إدريس الشافعى يشرح ما أضافة الشافعى للعبادة ويتحدث عن كتابة "أصول الفقه" وعن فهمه للقرآن والحديث وكذلك موهبته فى الشعر والبلاغة والكلام، وتلتقط من المقال أن عديداً من المسلمين فى شمال القوقاز يتبعون المذهب الشافعى، ولا يقل الاهتمام بالإمام مالك بن أنس عن سابقيه فتجد مقالا عنه وعن أعماله وتفسيرة وما أضافة لأصول العبادة فى العدد الخامس.
ولا تقف الكتابة عند حدود التاريخ للأئمة الكبار فحسب بل يتعدى ذلك إلى سير العلماء الآخرين من أبناء المنطقة، فيفرد أحد الأعداد مجالا لحديث مطول عن العالم محمود الزمخشرى من القرن الحادى عشر المولود فى خوارزم، وعن الخمسين كتاباً، فى التفسير التى ألفها، وعن الفترة الطويلة التى قضاها من حياته فى مكة المكرمة حتى أخرج كتابة "تفسير الكشاف" المشهور بين المسلمين كافة، ومقال آخر عن أبو النصر الفارابى، وحديث آخر عن حياة المسلمين فى العصور السابقة وهكذا.
ولا تهمل المجلة الحديث عن انطباعات المسلمين المسافرين إلى الحج وعن لقائهم ومناقشاتهم وما تبادلوا من آراء مع المسلمين من بلاد أخرى، وتنقل إلى القراء الأخبار الجارية عن الحياة الروحية لمختلف مجموعاتهم، وعن مدارس ومعاهد إعداد رجال الدين، وعن المناسبات ذات الصفة الخاصة مثل العيد ال 1500 لمدينة سمرقند، وعن المؤتمرات الإسلامية فى الخارج والداخل، أى أنها لسان حال للمسلمين فى هذه المناطق بالفعل.
وقد حرص المجلس الإسلامى لآسيا الوسطى وكازاخستان على تأسيس مكتبة عامة للمسلمين تضم الآن ما يقرب من 25,0000 مجلد وكتاب معظمها بالطبع يدور حول تعاليم الإسلام والشريعة، كما حرص على أن يجمع كل المخطوطات التى صدرت عن السلف الصالح من العلماء بحيث يجمع لدية ما يربو على 2000 مخطوط منها، وتتبادل المكتبة الرسائل والصلات مع كل المكتبات الإسلامية فى العالم.

 إعداد رجال الدين:
 فى وسط مدينة بخارى القديمة، وقريباً من مئذنة كالان الشهيرة يوجد بناء من طابقين يدعى مدرسة "مير عرب" يرجع تاريخ بنائها إلى عام 1535 ميلادية، حيث سماها بهذا الإسم وحاضر فيها لجميع علماء بخارى الأمير الشيخ سيد عبدالله اليمنى، وقد أتت على المدرسة عوائد الزمن ولكن أعيد تعميرها بعد الحرب العالمية الثانية، واستخدامها لتدريب وتعليم رجال الدين تحت الإشراف المباشر للمجلس الإسلامى لآسيا الوسطى.
ويوفر المجلس الإسلامى هيئة التدريس ويتولى أمر إعاشتهم، كما يدفع منحة شهرية للطلاب، ذلك بالإضافة إلى ما اصطلحت جميعات المسلمين عليه بأن تدفع شهرياً مبلغاً قد يصل إلى 100 روبل للأسرة التى ينخرط أحد أبنائها فى سلك المدرسة.
ويتقدم الشباب الرغبون فى تكريس حياتهم للخدمة الدينية لتعقد بينهم مسابقات يتم على أساسها اختيار العدد المطلوب منهم، وكقاعدة، فان كل متقدم يجب ألا يقل عمره عن 18 عاماً، وأن يكون قد تعدى مرحلة التعليم الثانوى بنجاح، كما تعلب تزكية الجميعات الدينية للشبان دورها فى اختيارهم بالإضافة إلى نتائج المسابقات.
وتستمر الدراسة لسبع سنوات يقيم الطلبة أثنائها طوال العام الدراسى فى المدرسة، ويتلقون دراسة شاملة للتعاليم الدينية أهمها حفظ القرآن وقواعد تلاوته وتفسيرة، وسيرة النبى ودراسة الحديث، وتاريخ الإسلام والشريعة والفقة، وهذا يعطى قدر كبير من الأهتمام بدراسة اللغة العربية لغة القرآن، كما يدرس الطلبة بالإضافة إلى المواد الدراسية الدينية مواد أخرى، هى الجغرافيا وعلم الاجتماع وتاريخ الشعوب والاقتصاد السياسى واللغة والأدب الأوزبكى.
وللمدرسة جامعها الخاص حيث لا يؤدى الطلبة الفرائض الخمس فحسب، بل يتمرنون على إمامة إقامة الصلاة، وإلقاء المواعظ بحيث يتوفر لهم من ذلك التدريب العملى.
 أما فى الأجازة الصيفية التى تمتد أربع شهور من مايو إلى سبتمر، فيتفرق الطلبة إلى المساجد فى الجهات النائية ليلموا بحياة المسلمين وينقلوا إليهم ما تعلموه فى المدرسة، وفى نفس الوقت يكتسبون الخبرة والتدريب من ممارسة الشعائر الدينية تحت قيادة علماء تلك المناطق.
وقد حدث تغيير كبير فى عام 1968 - 1969 إذا افتتحت المدرسة مجموعة بها للشيعة بعد أن كانت قاصرة على أبناء السنة فقط.
ويعتز المسلمون فى الاتحاد السوفييتى بخريجى تلك المدرسة إذ يعيشون فى وظائف الأئمة والخطباء فى المساجد، ونواب للأئمة أو فى المجالس الإسلامية ذاتها.
كما ترسل المجالس هؤلاء الذين يظهرون تفوقاً خاصاً لاستكمال دراستهم فى تاريخ الإسلام والشريعة والفقة والفلسفة الإسلامية فى أكبر المعاهد الدراسية فى العالم الإسلامى، فمنهم من يذهب إلى الإزهر الشريف، ومن يوفد إلى كلية الشريعة بجامعة القيروان بالمغرب، وجامعة مدينة البيضاء الليبية، وجامعة دمشق وغيرها.ا
أما هيئة التدريس فبالإضافة إلى أن العديدين منها قد تخرجوا أو درسوا بأشهر الجامعات الإسلامية، فأنهم حريصون طول الوقت على الاستفادة من خبرات تلك الجامعات فى تحسين وتطوير تدريس كل العلوم الإسلامية بالمدرسة، وليست مدرسة "مير عرب" ببخارى الوحيدة فى هذا الصدد، فهناك مدرسة "برافد خان" فى طشقند والتى يرجع تاريخها إلى 1000 عام تقريباً، وعديد آخر من المدارس التى تعنى بالتربية الدينية وإعداد رجال الدين.
هذا وتقوم الإدارة الروحية فى الوقت الحاضر بالاعداد لافتتاح معهد إسلامى جديد فى طشقند سيكون معهداً إسلامياً عالياً يعد رجال الدين ذوى التخصص العالى.


الحياة الروحية للمسلمين:

قد يجد القارئ فيما سبق ضماناً وأماناً لأحوال الدعوة الإسلامية من حيث تنظيمها وإمكان تقدمها وإتاحة الفرص لها لتتسير فى يسر ودون عقبات، بل وأن تتقدم بين المسلمين.
ومع ذلك فقد يتساءل البعض ما إذا كان ذلك ينعكس فى حياة المسلمين اليومية، فى أدائهم للفرائض، فى الصلات الأسرية، فى الزواج والطلاق، فى الصيام والزكاة، إلى آخر ما تطلبه العقيدة من المؤمنين، والواقع أن استعراضاً سريعاً لهذا كفيل بأن يضع الصورة الصحيحة أمام القارئ، وأن يجعله يلمس بنفسه، ومن الحقائق المادية كيف أمكن للمجتمع أن يحقق حياة عقائدية هانئة للمسلمين.



الصــلاة:
 سبق أن أوضحت كيف تصدر المجالس الإسلامية سنوياً التقويم الهجرى بكافة الأيام ذات المناسبات الخاصة عند المسلمين، ويحوى هذا التقويم كذلك مواعيد الفجر والشروق والغروب ومواعيد الصلاة فى كافة أجزاء تلك البلاد المترامية الأطراف.
كما أن الجهد الذى بذلته الحكومة السوفيتية فور قيام الثورة فى إصلاح كل الآثار الإسلامية، وإعادة بناء المساجد والمدارس الدينية، وما قامت به المجالس الإسلامية لمختلف المناطق بعد ذلك من صيانة للمساجد وتوسيع للعديد منها، أدى إلى أن تتوفر فى جميع الأماكن وفى معظم المدن الكبرى بالاتحاد السوفييتى مساجد عديدة تتيح للمؤمنين أداء الفرائض فى كل الأوقات، هناك فى موسكو ولنينجراد وغيرها من سائر المدن الكبرى مساجد يقوم المسلمون السوفييت وكذلك زوار البلاد والمقيمين بها من المسلمين من بلاد أخرى بأداء الفرائض جنباً إلى جنب، أما حيث توجد التجمعات الإسلامية فتكثر المساجد وتتعدد إلى درجة أنه يوجد فى باكو عاصمة أذربيجان 24 مسجد كبيراً وأكثر من 100 جامع صغير نسبياً، ويوجد فى طشقند مقر المجلس الإسلامى لآسيا الوسطى 15 مسجداً كبيراً وحوالى ال 100 مسجد صغير كذلك، ويقوم عديد من المساجد مجاوراً لأضرحة الخالدين من السلف الصالح.
ويؤدى معظم العاملين فى المصانع الصلاة فى منازلهم وبين أولادهم قبل بداية الصلاة فى كل الأوقات وفى أى مسجد قريب، أو جماعة مع بعضهم فى موقع العمل، أما يوم الجمعة الذى يعتبر فى كل مكان إسلامى مناسبة لتلاقى المسلمين وتجمعهم فتكاد تزدحم المساجد جميعاً بروادها، وقد يثير فى أذن الغريب نوعاً من الشجن الدينى الأثير إلى النفس أن يستمع إلى المؤذن وهو ينادى إلى الصلاة بلغة عربية سليمة مكرراً والتكبير والشهادتين، ثم الإمام وهو يتلو أثناء الصلاة القرآن جهاراً بلغة عربية سليمة تعيد إلى قلبه ذات المشاعر التى يشعر بها فى أى بلد إسلامى آخر.
ومن عادة المسلمين فى الاتحاد السوفييتى، ووخاصة فى مناطق تجمعهم أن يخلدوا بعد صلاة الجمعة إلى اجتماع دينى مشترك يتولى فيه إمام المسجد مذاكرة إخوانه المؤمنين فى أحوالهم الدينية والرد على تساؤلاتهم، وفى أحوالهم المعيشية وظروفها، ويبلغهم الفتاوى والتفسيرات التى توجهها لهم المجالس الإسلامية، وتتم فى نفس الوقت بين الحين والآخر جمع التبرعات التى يعطيها المؤمنين طواعية وبكل الرغبة لإقامة وإصلاح وصيانة مساجدهم والإنفاق على كل مظاهر الحياة الدينية لهم، كما يحدث كثيراً أن يزورهم مندوبون عن المجالس الإسلامية يرسلون من قبلها للإطمئنان على سلامة أداء الشعائر وكفاءة العاملين فى إمامة الجماهير والدعوة للاسلام بينهم.
لقد ظل الخلاف الحاد بينهما قروناً عديدة شأنه فى الكثير من المناطق الإسلامية التى يتواجدون فيها سوياً، وقد حرصت الحكومة القيصرية وأتباعها من رجال الدين المسلمين فى تلك العصور على استمرار إذكاء روح العداوة والفرقة فيما بينهم، وقد هال ذلك الوضع عديداً من رجال الدين المخلصين، كما مثل مشكلة كبرى أمام هؤلاء منهم الذين كانوا يرون صلاح معيشة المسلمين جميعاً شيعة كانوا أو سنيين فى الخلاصة من سيطرة القيصرية، ولعلنا نذكر هنا صيحة أحدهم وهو المعلم والفيلسوف الأذربيجانى ميرزا فتالى أخوندوف الذى كتب يخاطب مسلمى القوقاز جميعاً حيث الانقسام كان أكبر ما يمكن يقول "إن المسلمين الذين يقطنون القوقاز ينقسمون إلى طائفتين، نصفهم من الشيعة، والنصف الآخر من السنيين، يكره الأولون الآخرين، كما يبادلهم هؤلاء كراهية بكراهية، إن التناقض والعدواة الحادة قائمة بين كل منهما، إنه لا يطيق أحدهما أن يستمع إلى الآخر، كيف يمكن إذن بحق القرآن أن تتحقق الوحدة بينهما" وكان يعنى تحقيق الوحدة حتى لا يكون ذلك الخلاف الشديد عقبة أمام نشوء وتعاظم الوعى الوطنى والطبقى ضد القيصرية، وقد عاوزن الثوريون الاشتراكيون العاملون فى تلك المناطق للتقليل من تلك الخلافات ومحاولة الوصول إلى حد أدنى من الانفاق فيما بين الطائفتين يتيح لهما أن تتحدا فى الكفاح ضد القيصرية.
ولقد تغير الوضع تماماً بعد الثورة وتحرر المسلمون جميعاً وإن كان ذلك قد استغرق بعض الوقت، وقد عبر عن ضرورة تغير الأوضاع بعد الثورة قول أحد قادة الشيعة هو المولى جواد زينالوف "إن سياسة دولتنا أن نجمع سوياً كل الشعوب بصرف النظر عن الأصل أو الدين، وعلينا إذن ألا نقسم الأذربيجانيين إلى طوائف من الشيعة والسنة".
لقد كان لكل طائفة فيما قبل الثورة مساجدها التى كان لا يمكن أن يغشاها أتباع الطائفة الآخرين باعتبار أن تلك أماكن "معادية"، وأن الفرائض لا تؤدى فيها حسبما يجب أن يكون، ولكنا نجد اليوم فى عديد من المدن والقرى نفس المسجد يستعمله الشيعة والسنيون وتتكون إداراته من ممثلين عن كل طائفة فى تعاون كامل دون تصادم، وإن اجتمعت كل منهما على حدة فللمسلمين "إمامهم" وللشيعة "الآخوند" الخاص بهم، ويؤى هذا الاقتراب -وإن كان قد بدأ على حذر- بين الطائفتين إلى اقتراب أكثر وأكثر، وليس غريباً الآن أن يلجأ الشيعة إلى إمام سنى أو العكس لأداء أى طقس من الطقوس الدينية، كأن يؤم "الإمام" مصلين من الشيعة، أو أن يؤم "الآخوند" مصلين من السنيين.
ونضيف فى هذا الأمر ما هو معروف لدى المسلمين جميعاً من طقوس يقوم بها الشيعة خلال شهر محرم باعتباره الشهر الذى قتل فيه الإمام الحسين، واعتباره شهر الأحزان، وما جرى التقليد بينهم على ممارسة التعذيب الذاتى تكفيراً عن قتله، لقد كان ذلك يمارس بين الشيعة من مسلمى الاتحاد السوفييتى شأن الشيعة فى كل مكان، وكثيراً ما كان يؤدى هذا التعذيب الذاتى إلى إصابات خطيرة بل وإلى الموت أحياناً، وقد تدارس المجلس الإسلامى للقوقاز هذا الوضع وانتهى إلى أنه ليس من العقل أو مما يفرضه الدين أن يصل المؤمنون فى إظهار حزنهم إلى الحد الذى قد يؤدى إلى الموت،وبدأ يباشر دعوته بين الشيعة على أساس تعاليم الدين والقرآن والحديث حتى نجح تماماً فى أن يقلع هؤلاء عن كل مظاهر التعذيب وإن بقيت كل مشاهد ممارسة الحزن على وفاة الإمام الحسين خلال شهر المحرم، واعتبر المجلس أن نجاحه قد تم حين وصل إلى أن يشارك أهل السنة إخوانهم بين الشيعة طقوسهم فى هذا الشأن.

تحفيظ القرآن:

تنتشر فى آسيا الوسطى منذ عصور سابقة عادة حفظ القرآن عن ظهر قلب، وتجويده كذلك، وقد سبق أن أشرنا إلى أن المفتى ضياء الدين خان قد حفظ القرآن ورتله كاملا وهو فى سن الثالثة عشرة، كما أن نائبة فى رياسة المجلس الإسلامى لمسلمى آسيا الوسطى وكازاخستان إسماعيل مخدوم ساتييف قد حفظ القرآن ورتله وفق كل قواعد التجويد بكل القراءات منذ سن مبكر.
وعدا مدارس إعداد رجال الدين ودورها فى تحفيظ القرآن بلغته الأصيلة، فان الأئمة والخطباء يقومون فى المساجد على تحفيظ القرآن لكل النشئ الذى يوجهه أهله من المسلمين إلى ذلك، ويعتبر حفظ القرآن وسيلة للنجاح فى التزكية وامتحانات المسابقة التى تعقد لقبول الشباب فى مدارس إعداد رجال الدين.
وكثيراً ما تعقد المسابقات بين حفظة القرآن فى ترتيله، ومن ينجح فى ذلك، وينال تقدير المحكمين يعطى لقب "قارئ" الذى يتيح لصاحبة مركزاً مرموقاً بين المسلمين.
ويشترك "القارئون" من آسيا الوسطى فى عديد من المسابقات العالمية لترتيل القرآن، وعندما عقدت مسابقة عالمية فى باكستان فى سنة 1968 بمناسبة الذكرى ال 1400 لنزول القرآن الكريم، شارك فيها هؤلاء، وحققوا فيها نجاحاً ملحوظاً إلى حد أن أحدهمم وهو "رحمة الله القارئ فاسيموف" حصل على أحد الجوائز العليا بين المرتلين من مختلف أرجاء العالم الإسلامى.

الصيام والزكاة وصلاة العيد:

إن لشهر رمضان المعظم مكانته بين مسلمى الإتحاد السوفييتى كما هو بين المسلمين فى العالم أجمع، ويبدأ الاستعداد لهذا الشهر الكريم من أول سابقة شهر شعبان حيث تعقد الندوات فى المساجد وتلقى المواعظ عن مغزى الصيام وحكمته وأصول أداء الفريضة.
وما أن يأتى رمضان حتى تبدأ كل العادات التى تكونت منذ مئات السنين فى الكشف عن نفسها، مما يعطى الشهر طابعه الخاص، فالأطفال يدورون على المنازل، يرددون الأغانى التقليدية تهنئ المسلمين بحلول شهر الصيام، داعية لهم بالصحة والسعادة وسائلة الله أن يهب صاحب المنزل ولداً سالحاً، وينالون كالمعتاد جزاءهم من صاحب البيت فى صورة حلوى وهدايا لكل منهم، أما الكبار فيؤمون المسجد بعد الإفطار ليؤدوا سوياً صلاة العشاء وصلاة "التراويح" ويجتمع فى المساجد الكبيرة قراء القرآن "قارئ" وحفظته "حافظ" ليرتلوا القرآن كله بعد التراويح على مدار الشهر، وتختلف عادة تلاوة القرآن من مسجد لآخر، ففى مساجد تلا شيخ، وراكات وخوجا ألمبادور فى طشقند يختم القرآن مرة كل عشرة أيام من القراء والحفظه، بينما يطول ختمه إلى الشهر كله فى مساجد الشيخ مصلح الدين فى ليتينجراد، وجامى فى دوثانب، ومخدوم ايشان فى نامانجان، أما فى شمال القوقاز فتتخذ تلاوة المصحف صورة أخرى إذ يتبادل المصلون قراءة سورة من كل منهم بعد صلاة التراويح وبمشاركة أكبر عدد منهم.
أما "الإفطار" فهو مناسبة اجتماعية حيث يتبادل المسلمون دعوة بعضهم البعض إليه طوال الشهر، كما يحرص الأبناء الذين يعيشون لسبب أو آخر متفرقين أن يتم اجتماع الأسرة كلها حول الوالدين لأكثر من إفطار خلال الشهر، وفى عديد من القرى قد يتفق السكان فيما بينهم بحيث يقدم كل منهم الإفطار للباقين مرة على الأقل خلال الشهر، ويعقب لقاءهم هذا صلاة الجماعة والتراويح سوياً ثم تلاوة القرآن أو الاستماع إليه من حفظته.
وتتباين الأوضاع كذلك بعض الشئ فى الاحتفال بليلة القدر، ففى الجزء الأوربى وسيبيريا وكازاخستان وبعض مناطق شمال القوقاز تحيى الليلة عادة فى المساجد حيث تلقى المواعظ، بينما يحييها التتار والأوزبك فى منازلهم حيث يتبادلون قراءة القرآن والصلاة والدعاء ابتغاه مرضاة الله وبركاته.
وما أن تحل ليلة عيد الفطر فى نهاية الشهر حتى يسبق الشيوخ الباقون ابتداء من منتصف الليل يقضونها فى المساجد، بينما تجد الأقل سناً فى الصباح الباكر وقد توجهوا فى جماعات تردد التكبير طوال الطريق، وعادة ما يؤم شيخ الإسلام وكا مفتى قومه فى أحد المساجد الكبيرة فى منطقته لصلاة العيد، وإذ تنتهى الصلاة، يتبادل المسلمون داخل المسجد التهنئة بالعيد، كما تقرأ عليهم التهانى التى وصلتهم تلغرافياً من المسلمين فى مساجد أخرى، ثم ينصرفون ليتجه العديد منهم لزيارة قبور موتاهم، والدعاء لهم ثم يعودون إلى بيوتهم يتبادلون الزيارات وتناول الحلوى، وكثيراً ما يجتمع المجموعات منهم لغذاء مشترك فى بيت أحدهم، بينما تكون الساحات حول المساجد قد تحولت إلى سوق صغير من الحوانيت العديدة التى تبيع الحلوى الشرقية، واللعب المحلية، وعديد من الأشياء الصغيرة التى يعتز بشرائها الشباب والأطفال فى مناسبة العيد، هذا وتستمر احتفالات الأعياد سواء كان عيد الفطر أم عيد الأضحى لمدة ثلاثة أيام.
وفى مناسبة عيد الأضحى الذى ينتشر فيه بين المسلمين القادرين تقديم الأضاحى قرباناً إلى الله تعالى، وتقليداً منذ ألهم الله سبحانه وتعالى سيدنا إبراهيم أن يفدى إبنه بكبش كبير، فأنك تجد المسلمين فى آسيا الوسطى وقد تجمع كل من يشاء منهم ومعه الفداء التى اعتزم التضحية به فى الساحة أمام المسجد، لتذبح الضحية ويوزع لحمها على الحاضرين.
أما الزكاة فقد تم لها قدر من التطوير بعد الثورة الاشتراكية لا نظن إلا أن المسلمين فى كل بقاع الأرض سوف يرضون عنه ويقبلونه، لما يحويه التطوير الذى حدث من ملاءمة بين تعاليم الدين والظروف التى صار يعيشها المؤمنون، فالمعروف أنه على كل مسلم مؤمن أن يقدم زكاة عنه وعن ماله وعن كل فرد يعوله، وعلى أن تقدم هذه الزكاة إلى مستحقيها من الفقراء فى أى وقت من رمضان المعظم حتى قبل صلاة العيد ليشعر المسلمون جميعاً أن العيد قد أقبل وكلهم يرفلون فى حلل السرور، وحتى لا تطلع شمس العيد إلا والجميع فى رضى برحمة الله عليهم، وبعد الثورة الاشتراكية، واستمرار التوسع فى اقتصاد البلاد، واضطراد التزايد فى انتاجية العمل صار يتحسن عاماً بعد عام مستوى معيشة جماهير المسلمين شأنهم شأن باقى جماهير الاتحاد السوفييتى كافة، ولأن الدولة قد أخذت على عاتقها وحققت بالفعل فرصة العمل للجميع، وانتشرت الكفالة الاجتماعية للعجزة والمسنين، وتحملت الدولة علاج المرضى فى كل الأحوال وتحت أى الظروف، فقد نشأ عن هذا وضع جديد بانعدام السائل والمحروم والجائع والفقير، تلك الطوائف التى أوجب الإسلام الزكاة عطفاً عليهم ومشاركة من إخوانهم القادرين فى محنتهم، وعوناً لهم على الخروج منها، وعندما وصلت الأمور إلى هذا الحد دارت المناقشات بين المسلمين عمن يمكن أن تعطى لهم الزكاة، وتحاجوا فى الأمر كثيراً، وقصدت المدارس الإسلامية للتدارس ورأت فى نهاية الأمر أن إعطاء زكاة من الأفراد لبعضهم البعض تحت ظل هذه الظروف يمكن أن يؤدى بين المترددين وضعاف النفوس -وهم موجودون فى كل مجتمع وعصر- إلى استمراء حياة طفيلية غير منتجة يعيشون فيها على حساب صدقات الآخرين، ومن ثم كانت فتوى المراكز الإسلامية بألا توزع الصدقات بصورة فردية، بل أن توجه لصندوق المال لجمعيات المسلمين التى تقرر هى أوجه إنفاق حصيلته سواء كان ذلك فى صيانة المساجد، أو فى تدريب رجال الدين، أو لتدعيم الصلات بين المسلمين وإخوانهم فى باق بلاد العالم، أو تمويل بعثات الحج إلى الأماكن المقدسة، أو نشر المطبوعات الدينية، أو فى النهاية فى مساعدة إخوانهم المسلمين فى بلاد أخرى.

الحج وأمور أخرى:

قد يوضح ما سبق كيف أن المسلمين فى تلك البلاد يمارسون نفس الحياة الدينية بكل ظواهرها ومباهجهها التى يمارسها إخوانهم المسلمون فى العديد من بقاع الأرض، ولا تختلف الظواهر المرتبطة بالحج عن باقى الظواهر من حيث استقبال العائدين من زيارة الأراضى المقدسة بكل مظاهر الفرح والسرور بحيث تتوالى فى ليال متتالية وفود القادمين للتهنئة يسمرون ليلهم سوياً فى الاستماع إلى ما ينقله الحاج العائد إليهم من تفاصيل الرحلة المقدسة، واللقاء مع إخوانه المسلمين، ووصفاً لمكة والمدينة ولباقى البلاد الإسلامية التى يكون قد زارها فى ذهابه أو عودته، ومازالت التقاليد بينهم تحرص على أن يعود الحاج بعدد من الهدايا للأهل والأقارب، وأهم ما يعتزون به وما جرى العرف عليه هو أن يهدى كل منهم قطرات من ماء زمزم، وقد يأتى أحدهم بسجادة عليها رسم مكة والمدينة لتعلق فى المسجد المحلى وهكذا.
وتحتل ليلة المولد النبوى منزلاً خاصاً من نفوس المسلمين ولهم فيها تقاليدهم التى توارثوها على مدى السنين، فهم فى تلك الليلة عادة ما يجتمعون فى المساجد الكبرى حيث يستمعون لمقتطفات من سيرة الرسول، وبضع سور من القرآن، ويحرص المسلمون فى آسيا الوسطى على العودة إلى ديارهم ليحيوا بقية الليلة فى حفل عائلى يستضيفون فيه جيرانهم والقراء وحفظة القرآن والعلماء والخطباء، ويشتركون جميعاً فى قراءة بعض سور القرآن والاستماع بالذات إلى أجزاء من كتاب "الجامع الصاحب" الذى جمعه إسماعيل البخارى.
هذا وقد تعرض المسلمون فى الاتحاد السوفييتى لكثير من التشهير المقصود من الدوائر الامبريالية فى مسائل الزواج، فقد أعطى طابع الدولة العلمانى واعتمادها فى الأمور الرسمية على الزواج المدنى إلى أن يشيع الاستعمار العديد من القصص والخيالات فى هذا الأمر، ولكن واقع الحال ينبئ عن أن المجالس الإسلامية تنتدب فى كل مدينة وقرية كبيرة تسمية "قاضياً" قاضى من المتفقهين فى أمور الدين، يمارس عقد الزواج تبعاً لأصول الشريعة بين المؤمنين، ولذلك فأنك تجد جميع المسلمين عند زواجهم يذهبون إلى الإدارة المدينة حيث يسجل العرسان أنفسهم كزوجين، ثم بعد ذلك أو قبله يقيمون احتفالاتهم حسب تقاليدهم حيث يتوج الزواج بعده شرعاً حسب الشريعة والسنة فى حضور القاضى الإمام والخطيب وسائر الأهل والمحبين، هذا ويحرم قانون الدولة تعدد الزوجات تحت أى ظروف، ولكن للزوج أن يطلق زوجته الأولى فى حالة المرض أو العقم، وفى هذه الحالة لا تدفع أى رسوم بينما يلزم الراغب أو الراغبة فى الطلاق بالرسوم فى غير ذلك من الحالات، وحكمة فرض الرسوم على راغب الطلاق مثل عديد آخر من الإجراءات إنما يكون الهدف منها وضع عدد من المعوقات أمام المطلق حتى يراجع نفسه عند كل عقبة فلعل الصالح يكون مستطاعاً لعل المؤمن يعود عما يصف عند الرسول بأنه أبغض الحلال.
***
تلك مشاهد من حياة المسلمين فى الاتحاد السوفييتى سواء فى تنظيمهم الدينى أو علاقتهم بالدولة أو فى ممارستهم للفرائض والعبادات، ربما وجد المؤمن فيها ما يطئمنه على أحوال إخوان له فى العقيدة، وعلى أن الاسلام بخير طالما كان له أئمة يدافعون عنه، ويجعلون منه دعوة إلى الحق، وما كان يمكن لمسلمين فى ظل الاشتراكية أن يكونوا فى غير هذا الحال، فما دعوة الإسلام -كذلك كل الأديان- إلا السعى إلى أن يعيش المؤمنون إخوة متساندين تنتشر بينهم المحبة ويبتعد عنهم الفرق والجهل والمرض، وأن يكونوا لبعضهم كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضاً، وذلك كله ما تدعو إليه الاشتراكية وتعمل على إحلاله فى حياة الناس محل كل مظاهر الاستغلال والقهر والاستعباد التى يمارسها كل من الاستعمار والرجعية والرأسمالية.

****

خاتمـــــة
لعل أفضل ما نختم به هذا الحديث الذى ما أردنا به إلا تدارس أحوال المسلمين فى بلاد كثر عنها اللغط، وتعقيباً على ما دأبت الدوائر الاستعمارية من ترديده من أن نستنير بقوله تعالى:
"يا أيها الذين آمنوا، إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا أن تصيبوا قوماً بجهالة فتصبحوا على ما فعلتم نادمين".