الفصل الثانى: المسلمون والثورة الاشتراكية

 ظروف تهيئ للثورة
لقد دمغ التاريخ كم قياصرة الروسيا بكونه أسوأ أنواع الحكم الذى شهدته بلاد أوربا فى نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، ولقد ساعد على ذلك طبيعة الحكم القيصرى ذاتها، فقد كان كماً أوتوقاطياً لا يمارس أى شكل من أشكال الديمقراطية، كما فعلت بلاد أوربا الغربية، بحيث يخفى مظهر الحرية أوجه الاستغلال الداخلى الذى تقع تحته جماهيرها العاملة، ولم يكن للروسيا من المستعمرات ما يتيح امتصاص دماء شعوبها بالقدر الذى يساعد على رشوة الطبقات العاملة فى الداخل، كما فعلت معظم بلاد أورا الغربية، وبالتالى تؤجل الثورات الاجتماعية إلى حين، لقد كان حكماً فردياً يمارسه القيصر وحلقات الأمراء والمنتفعين من حوله، وتدعمه الكنيسة التى كانت تفرض سلطانها فى ذلك الوقت تمتد من وسط أورا حتى أقصى شرق آسيا بها من الخيرات ومصادر الثروة ما كان يتيح أن يتواجد بها -بمقاييس ذلك الوقت- قدر من الورفة يساعد على معيشة آدمية لسكانها، إلا أن انصراف الأداة الحاكمة إلى تكوين الثروات الخاصة، وإلى الإنفاق الجاهل إلى حد السفه، وقف إزء أن تأخذ بلادها بأسباب التقدم العلمى والتكنولوجى، وسيطر على البلاد جو من التأخر الفنى، وعدم الإيمان بالدولة إلى حد أن ظلت تقاسى تلك الدولة المترامية الأطراف، العديدة السكان، من الهزائم العسكرية سواء فى الجنوب على يد إمبراطوريات وسط أوربا وتركيا، أو الشرق على يد اليابان، أو على يد ألمانيا والنمسا خلال الحرب العالمية الأولى، لقد كان نظام الحكم القيصرى يحمل فى طياته من عوامل الانهيار ما يجعله غير مقبول من الجماهير فى الداخل، وعرضته للمطامع من الخارج.
لقد كان طبيبعاً أن تفرز هذه العوامل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بذور الثورة فى داخلها، أملا فى التغيير إلى الأفضل، وسعياً إلى أن تنال الجماهير -التى كان يباع من جانب أمراء الإقطاع مع الأرض كما تباع السوائم- حقها فى مجرد الحرة الكريمة.
ولقد أفاض أبناء روسيا ذاتها فى وصف مثالب النظام، وبرز من بينهم الشعراء والقصاصون والأدباء الذين أفاضوا أكثر من غيرهم فى فضح عيوب النظام ودعوا إلى تغيره فى روسيا، أكثر من أى بلد آخر، الجماعات السرية، وذلك أبلغ رد من جانب فقهاء المسلمين على هؤلاء الذين ساروا فى ركاب الأمراء والخانات واتباع القصير الحاكمين، والذين تحت مسوح من لباس الدين جاهروا أمام المظلومين من شعوبهم بأنه لا وفاق بين الاشتراكية والاسلام، وأن التفكير فى التغيير الاجتماعى ليس أمراً مكروهاً فحسب، بل محرم كذلك.


وقامت الثورة
 لقد قامت ثورة أكتوبر 1917 لتقضى على النظام القديم فى روسيا واتجهت ضد الأغنياء جميعاً من رأسماليين وإقطاعيين وأمراء وبكوات وقيصرية، أى ضد الذين كانوا يعيشون على حساب الكادحين، والذين بنوا سعادتهم على فقر الشعب ودموعه وأحزانه، ونقلت السلطة جميعها إلى أيدى الشعب العامل.
وبالتالى اتحد جميع الذين اكتسحهم طوفان الثورة، وحشدوا قواهم، فتدخلت الدول الاستعمارية لتقضى على النظام الجديد، واستمرت حربهم له سنوات عديده، كما قام الأمراء والبكوات والخانات المطرودون -شأن الرأسماليين والاقطاعيين المطرودين من باقى أجزاء الاتحاد السوفييتى- بتكوين قواتهم الخاصة فى الداخل لمحاولة إسقاط النظام الذى قضى على كل ثرواتهم وسلطانهم، وانتشرت فى آسيا الوسطى عصابات عرفت بأسم الباسماتشى تكونت فى الأساس من القتلة والسفاكين والنهابين، وانتشرت بين الكادحين الذين أيدوا الثورة، تنهب بيوتهم، وتحرق ديارهم، وتخرب محاصيلهم، وتدمر الترع والقنوات أملا فى نشر عدم الثقة والخوف ومنع إقامة الحياة العادية، حتى يرتبك النظام الجديد ويصبح سهلا بفضل التدخل الاستعمارى الاجنبى.
واتضح لدى الشعب المسلم ماذا يريد الباسماتشى، واشترك رجال الدين فى الكفاح ضدهم، وأخذ الأئمة والخطباء يجندون المؤمنين للجهاد إزاءهم، ونظموا الفرق والفصائل لمحاربة رجال العصابات، ولذلك أنصب قدر كبير من نقمة هؤلاء على رجال الدين فأخذوا من وصلت إليه أيديهم بكل قسوة ووحشية، ودنسوا المساجد والحرمات، ونهبوا أملاك الجماعات الدينية، ومات العديد من رجال الدين ميته الأبطال.
وأصدر رجال الدين الإسلامى قراراً خاصاً ضد الباسماتشى يقول "هناك حيث يحكم المؤمنون وأبنائهم، وحيث يتركز الاهتمام برفاهية المؤمنين ورخائهم، وتبذل الجهود لتحسين حياتهم، فان هذه الأرض تنعم بعناية الله لأنها أرض مباركة، والذين يخرجون فى طاعة حكامها يستحقون اللعنة فى الدنيا والآخرة".
وإذا ظلت عصابات الباسماتشى تمارس نشاطها بفضل العون الاستعمارى المتدفق اجتمع مؤتمر رجال الدين فى جمهورية بخارى الشعبية فى عام 1942، واتخذوا قرارهم الذى جاء فيه "لقد أقام شعب بخارى بنفسه جمهوريته، ومن ثم يصبح واجباً احترام إرادة الله التى سمحت بقيامها، أنه يجب إلقاء السلاح والعودة إلى حياة السلام فى ظل العفو والتسامح العام، لأن تلك إرداة الله ومطالب الشعب، أن سلطة الشعب السوفيتية فى بخارى عادلة ورحيمة ولا تريد مزيداً من إراقة الدماء، ولكن إذا لم يبد الباسماتشى الخارجون على القانون اذناً صاغية إلى هذه الدعوة المبنية على ما جاء بالقرآن الكريم، وإذا لم تلق سلاحها كانت من العصاة لإدارة الله، ووجب على السلطة السوفيتية إبادتها إبادة تامة، وكان قتلهم بغير ذى خطيئة عملا بالشريعة".
والخلاصة أن المسلمين فى جمهورياتهم كانوا أمام اختيارين لا ثالث لهما، أما الانتصار لنظام يضع السلطة السياسية والاقتصادية بين يدى جماهير الشعب الواسعة بعد سنوات طويلة من ظلام الاضطهاد، وذلك ما اختارته أغلبيتهم الساحقة،وعلى رأسها زعماؤهم الديليون، أو الانتصار لعصابات تريد العودة بالسطلة إلى الماضى بكل ما كان فيه من إستغلال واضهاد وإرهاب، وهذا ما اختاره الأمراء والبكوات والخانات ومن ركب ركبهم من قلة من رجال الدين، أختارت الأغلبية الساحقة صف الثورة الاشتراكية وعملت على تأييدها، ويمكن أن نورد هنا بعض الأمثلة منذ الأيام الأولى للثورة، وأثناء حروب التدخل ووقت لم تكن السلطة السوفيتية قد تدعمت بشكل كاف.
ففى 13 مارس 1920 اجتمع المؤتمر الأول لممثلى الشعب فى منطقة التركمان وأرسل تلغرافلى لينين يقول "إن المؤتمر الأول لممثلى شعب تركمان يرسل يوم افتتاحه بتحياته القلبية لكم إن شعب تركمان بأكمله، الشعب العامل يحيى الثورة الروسية الكبرى، وكل العمال والفلاحين فى روسيا، إن الثورة الشيوعية التى حررت شعوب روسيا من أدران العبودية، قد فتحت لأول مرة آفاقاً عريضة للنور والحق والعدل، ونحن التركمانيون نقسم كرجل واحد أن نحافظ على مكاسب السلطة السوفيتية، ونفضل الموت قتالا عن أن نسمح لأعداء الثورة الاجتماعية أن يزعزعوا السلطة السوفيتية فى تركستان أو كل روسيا".
كما أرسل الزعماء الدينيون ومشايخ جمهورية داغستان الاشتراكية السوفيتية فى 25 فبراير 1923 إلى لينين يقولون "أن ال 76 مشتركاً فى مؤتمر رجال الدين ومشايخ المسلمين فى داغستان يحيونك قائد جيش العمال العظيم الذى يحرر العالم كله من سلاسل العبودية، ونحن نؤمن أنه بفضل جيشنا سوف يمكن لكل العالم الإسلامى أن يتحرر من الاستعباد".
وفى 3 ديسمبر 1921 أرسل رئيس مؤتمر "خوجات" أجاريستان باسمهم خطاباً إلى لينين يقول فيه أنه "يحيى قائد الثورة البروليتارية العظمى، بطل تحرير الشعوب المستعبدة وكل الجماهير العاملة فى العالم، أن انعقاد أول مؤتمر لخوجات أجاريستان لا يعبر التفاتاً إلى التأكيدات الاستفزازية الموجهة إلى جماهير الشرق -تلك التأكيدات بأن السلطة السوفيتية تعنى اضطهاد الدين، وأنه ليقنع كل الجماهير المستعبدة فى العالم من الرأسمالية، وسلطة السوفيتات، ويعبر المؤتمر عن عميق ثقته فى النصر المقبل لكل الجماهير العاملة فى الشرق".
وفى عام 1920 أرسل قادة المسلمين فى مقاطعة سباسك برقية إلى أجهزة السلطة بمناسبة إعلان جمهورية التتار يقول "أن رجال الإسلام فى منطقتنا يحيون بسرور إعلان جمهورية التتار، وتتعهد بتأييدها، والمساعدة فى وقوفها على قدميها، بنشر العلم بين الجموع الأمية، إننا نعتبر السلطة السوفييتيه كالحامى الوحيد لمصالح الأقليات القومية، أن الفترة التى نعيشها فترة انتقال سوف تكون مقدمة لحياة سعيدة للبروليتاريا".


 موقف الثورة من المسلمين
ولم يكن ممكناً أن يأخذ المسلمون، وعلى رأسهم رجال دينهم من الثورة هذا الموقف المؤيد، والذى تعدى حدود التأييد بالكلمة إلى حمل السلاح دفاعاً عنها، إلا إذا كان موقف الثورة ذاتها منهم، ما جعلهم يؤمنون بها إلى هذا الحد، والواقع أن استعراضاً لإجراءات الثورة وقراراتها فيما يتعلق بعديد الأديان التى كانت قائمة عندئذ ومن بينها الدين الإسلامى -ثانى الأديان انتشاراً فى الاتحاد السوفييتى- يمكن أن يبين بوضوح لماذا كان تأييدها واسعاً بين كافة جماهير الشغيلة فى جميع أرجاء البلاد.
لقد مثل ما كتبه لينين -وسبق ذكره- فى 1903 الموقف الفكرى للثورة الاشتراكية إزاء جميع الأديان والعقائد بشعبة الثلاث، من أن لكل أمرئ أن يعتنق الدين الذى يراه وأن ينشره وأنه لا يجب أن تكون هناك كنيسة سائدة، وأن العقيدة أمر يخص الضمير، وانعكس بعد نجاح الثورة فى كل قرارتها.
فبعد أسبوع واحد من قيام الثورة صدر إعلان حقوق شعب روسيا، الذى قضى على سيطرة الكنيسة الأورثوذكسية الروسية متضمناً الحقوق المتساوية لكل الأديان، واعتبر المواطنون أحراراً فى أمور العقيدة الدينية، وأعلنت المساواة التامة بينهم بصرف النظر عن عقيدة أى منهم، وقد تجسد هذا فى القانون الذى أصدره لينين فى 23 يناير 1918 "بفصل الكنيسة عن الدولة، والمدرسة عن الكنيسة". وقد كان ذلك يعنى وضع حد نهائى لسيطرة الكنيسة واعتبارها جزءاً -بل فى الواقع محركاً- من أجهزة الدولة، وصارت سلطتها محصورة فى اتباعها ولا حق لها فى التدخل فى أى أمر من أمور الدولة، ولكنه وبنفس المنطق صار محرماً على الدولة وأجهزتها أن تتدخل بأى صورة فى أمور الكنيسة.
كما أبرزت الثورة احترامها لمعتقدات وتقاليد المسلمين فى واحد من أول المراسيم التى أصدرتها بعد أقل من شهر من قيامها حين توجهت فى نداء إلى جميع الكادحين المسلمين فى روسيا والشرق"، وقعة لينين وجاء فيه "إن معتقداتكم ومسساتكم القومية والثقافية تعتبر من الآن حرة مصونة، أنه يمكنكم إقامة حياتكم القومية بحرية ودون أى عوائق، إن ذلك حقكم".
واستمر الخط الفكرى للثورة ثابتاً حتى تعبر عنه بصورة نهائية وحاسمة فى دستور الاتحاد السوفييتى الذى تنص المادة 124 منه على أنه "حتى تتأكد حرية الضمير لدى المواطنين، تنفصل الكنيسة فى اتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية عن الدولة، والمدرسة عن الكنيسة، ولكل المواطنين الحق فى أداء الشعائر الدينية، أو ممارسة الدعابة ضد الدين"، وتكمل المادة تلك النظرة بنصها على أن لكل المواطنين السوفييت فوق سن الثامنة عشرة بصرف النظر عن عقيدتهم الحق فى انتخاب ممثليهم، كما أن للمواطنين فوق سن الثالثة والعشرين أن يرشحوا كممثلين إلى أعلى أجهزة الدولة، مجلس السوفييت الأعلى لإتحاد الجمهوريات السوفييتية".
وانطلاقاً من تلك النظرة فان جميع الوثائق المدنية الرسمية فى الاتحاد السوفييتى تخلو من أى إشارة إلى الدين سواء تعلق ذلك بدخول الوظيفة أو المدرسة أو الالتحاق بالجيش، كما حددت الدولة المسئولية الجنائية للأعمال التى تعوق تأدية الشعائر الدينية، فالمسئولية بهذه الصفة تقع على كل من يرفض قبول المواطنين للعمل أو الدراسة فى أى معهد من المعاهد، أو كل من يفصل المواطنين من العمل أو المعاهد، أو كل من يحرم أى مواطن من الامتيازات العادية وغيرها مما يحدده القانون، أو كل شكل من أشكال تقييد الحقوق، إذا ما تم ذلك على أساس العلاقة بالعقيدة.
ومع ما يوفره القانون من حرية العقيدة والعبادة وأداء الشعائر الدينية والدعوة لها، فأنه نظراً للطابع العلمانى للدولة فان غير المؤمنين يتمتعون كذلك بحق الدعاية ضد الدين، على أنه -وبحكم القانون- لا يجوز أن تمارس بأى صورة فيها مساس بمشاعر المؤمنين، ولذلك فهى تنحصر دائماً فى الآراء المادية فى نشوء الكون والحياة، وغيرها من قضايا الطبيعة.
ولا تحظر القوانين السوفيتية القائمة إلا الطوائف الدينية التى يكون الدين فيها ستاراً للتبشير أو القيام بطقوس وحشية أو الفجور، فتحرم مثلا فى الاتحاد السوفييتى طائفة "الخصيان" التى تطلب من كل واحد من اتباعها أن يكون مخصياً، كما حرمت طائفة "خسيتى" التى تفرض مشادات اجتماعية بين أتباع الطائفة من الجنسين، تتحول بموجب الطقوس إلى أعمال فاجرة، كما حرم نشاط "شهود يهوه" لأنها تعتبر بالفعل منظمة معادية للاتحاد السوفييتى تستغلها المؤسسات الإمبريالية فى الخارج ومن بينها ادارة المخابرات المركزية الأمريكية للعمل التخريبى فى الداخل، ويقع مقرها الرئيسى فى بروكلين بالولايات المتحدة وترسل منه إلى الأراضى السوفييتية بطرق سرية منشورات معادية للدولة، كما يفرض على اتباع "شهود يهوه" عدم الخضوع للقوانين والعصيان المكشوف على السلطات السوفييتية.
 ****
ويتعلق ما سبق بيانه من علاقة الثورة الاشتراكية والمسلمين بالبيانات الرسمية والقرارات، وقد أوضحت أن الثورة التزمت فى تصرفاتها بالخط السياسى الذى أعلنته منذ ما قبل الثورة بسنين عديدة والذى يلخصه أن العقيدة أمر يخص ضمير الإنسان بحيث لا يمكن لأحد أو النظام -حتى إذا أراد ذلك- أن يحاربه، وأنه بالتالى لكل أمرئ الحق فى أن يختار العقيدة التى يراها، بل وله فوق ذلك أن يدعو لها، فأنه من المضامين الأساسية للحرية أن يستطيع الإنسان المجاهرة بما يؤمن به، وأن يبين محاسن عقيدته وما ارتضاه ضميره.
وأنه ضماناً لتلك الحرية وتأكيداً لها، لا يجوز أن تكون هناك فى الدولة كنيسة سائدة مسيطرة، لأن معنى ذلك الحد من حرية الآخرين من غير اتباعها فى اختيار عقيدتهم وممارستهم، بل وتعرضهم للاضطهاد أو على الأقل العنت والإرهاق بسببها، من هنا التزمت الثورة بهذا فى مواقفها المبدئية وقرارتها وضمنته فى النهاية دستورها ليصير شريعة تتبع فى الاتحاد السوفييتى كله.
وقد يضيف وضوحاً إلى تلك المواقف المبدئية المتجسدة فى وثائق الدولة ونظامها، مواقف قادة الثورة فى المسائل اليومية التى قد لا تحكمها مثل تلك المبادئ، وسوف نستعرض عدداً منها فيما يلى لعله يزيد أمر العلاقة بين الثورة والمسلمين وضوحاً للقارئ.
 مصحف عثمان
كان مصحف عثمان ثالث الخلفاء الراشدين أول مصحف مكتوب لدى المسلمين، إذ جرت العادة على تناقل القرآن رواية بين حفظته منذ نزوله على الرسول صل الله عليه وسلم، حتى جاء عثمان وأراد أن يحتفظ بالقرآن مكتوباً، تفادياً للخطأ فى تلاوته، أو تعرضه للنسيان من جانب بعض القراء، أو على الأقل تعرضه للحن (أى عدم القراءة الصحيحة) عند التلاوة، ولذلك فأن لهذا المصحف مكانته عند المسلمين عامة، فهو بالإضافة إلى كونه الكتاب المنزل مسجلاً كما كان يقرأ فى أيام الرسول والصحابة الأول، فأنه يعتبر أثراً من الآثار الهامة لدى المسلمين عامة.
ولقد آل المصحف منذ فتح آسيا الوسطى إلى المسلمين هناك، وظل محفوظاً فى سمرقند فى جامع "خوخا أحرار" الشهير، وعندما تم للقيصرية الاستيلاء على تلك المناطق أمر قائد قواتهم بالاستيلاء على المصحف، ونقل إلى القيصر فى بطرسبرج (لينجراد حالياً) حيث استقر فى نهاية الأمر فى المكتبة الأمبراطورية العامة، وحاول المسلمون مراراً وتكراراً بكل الوسائل مع القيصرية أن يعاد هذا الأثر الدينى الوحيد إليهم، فلم يفلحوا ولم تلتفت القيصرية بتاتاً إلى رجائهم وملتمساتهم.
وفى ديسمبر 1917، أى فى حدود شهرين من الثورة، توجه مؤتمر منطقة بتروجراد القومية إلى لينين بالطلب أن "يستجيب إلى مشاعر المسلمين الروس" وأن يعيد لهم "مصحف عثمان المقدس"، وفى الحال استجاب لينين إلى المطلب ووجه خطاباً إلى قوميسير الشعب للتعليم أ.ف. لوناشارسكى يقول فيه أن مجلس قوميساريى الشعب قد قر أن يسلم مصحف عثمان المقدس المحفوظ حالياً فى المكتبة العامة للدولة إلى المؤتمر المحلى للمسلمين دون إبطاء، ويرجى منك إصدار القرارات الملائمة فى هذا الصدد".
وتم التنفيذ على الفور، وحفظ المصحف فى أول الأمر فى مدينة أوفا، ولكن عندما عقد المؤتمر الأول لمسلمى آسيا الوسطى وكازاخستان فى طشقند، نقل المصحف إلى هناك وتم عرضه للجماهير حيث زاره عشرات الألوف للمشاهدة، وفيما بعد وعندما ثبت بالدراسة العلمية أن المصحف نظراً لطول عهده بالحياة، إنما يحتاج ليظل محتفظاً برونقه وبهائه ، إلى أن يوضع فى مكان خاص مكيف الهواء حتى لا تؤثر عليه تغيرات درجة الحرارة، وفى هواء معقم حتى لا تتأثر أوراقه ومداده بالبكتريا وغيرها من الطفيليات، تم نقله إلى المكتبة المحلية حيث تتوفر هذه الأجواء، ويظل معروضاً للجماهير، وفى نفس الوقت تم تصويره بمختلف الوسائل الفنية، لتكون منه صور عديدة تعرض فى مختلف الأماكن، وتؤرشف فى نفس الوقت مفاداة لهذا الأثر من الكوارث الطبيعية والحروب وغيرها.

  ترميم الآثار وإحياء التراث
يؤمن الفكر الاشتراكى بأن الحضارة فى أى حقبة من حياة البشرية إنما هى امتداد ونتاج طبيعى للحضارة القومية السابقة لأى شعب من الشعوب، وأن هذه الأخيرة فى تطورها نحو الاشتراكية كنظام اقتصادى واجتماعى، لا تبدأ من فراغ، ولا تقطع الصلة بينها وبين ماضيها، بل يجب أن يكون هذا التطور الجديد مرتبطاً بالتطور السابق، نابعاً من حيث انتهى ومضيفاً إليه، بحيث ينتقل المجتمع انتقالا طبيعياً، وفى أكبر اتساق ممكن مع المعطيات الموضوعية التى أوجدتها آلاف السنين السابقة من حياة الشعب.
والكل يعلم أن المعتقدات الدينية تلعب دوراً كبيراً فى تشكيل حياة الشعوب، ونظرتها إلى الأمور، وحقيقة أنه تنهض الكثير من الأدلة، وفى عدد كبير من البلدان، على أن الدين كان دائماً ما تستغله الرجعية وأعداء التقدم ضد تطلع شعوبها إلى حياة أفضل، فتنشر بين الجماهير من تعاليم الدين ما يمكن أن يساعد على بقاء سلطانها، وتركب الصعب من أجل إعطاء التفسيرات الملائمة لصالحها لما يجىء فى الكتب المقدسة أو فى أقوال الرسل أو سير حياتهم، ولكن، مع الأسف، تظل الحقيقة قائمة، بأن الدين يلعب دوره فى تشكيل نظرة الإنسان إلى الحياة، ويظل بسبب كونه عاملاً فى ضمير المرء يمثل منطلقاً للعديد من اتجاهاته الفكرية، ولعاقته بسائر البشرية، وقبوله لمختلف القيم، وبالإضافة إلى هذه الحقيقة، فأن هناك حقيقة أخرى تظل لها قوتها وقيمتها، إلا وهى أن الدين إذا تخلص من سيطرة أصحاب المصالح ومحاولتهم تسخيره لمصالحهم فأنه فى يد الطبقات المغلوبة على أمرها، لن يكون إلا دعوة للعدالة الاجتماعية، والمساواة بين الناس فى الحقوق والواجبات، ودعوة إلى التمسك بالخير -خير المجموع- ما استطاع الإنسان إليه سبيلا، فتلك رسالة الأديان جميعاً.
وانطلاقاً من هذا، فلم يكن يمكن أن ينتظر من الثورة الاشتراكية إلا أن تأخذ هذا كله فى الاعتبار، وأن تقف من الدين -رغم دعوتها بفصله عن الدولة- موقف الاحترام، بل والرغبة فى أن تتيح الفرصة لشعوبها- وعلى الأخص طبقاتها الكادحة- لأن تستخلصه كسلاح من أيدى أعدائها ليكون سلاحاً قوياً لتحقيق مصالحها.
وبناء على ذلك، ومنذ السنوات الصعبة الأولى لقيام الدولة الاشتراكية، حين كانت أربع عشرة قوة كبرى تشن حرباً لا هوادة فيها ضد الجمهورية الفتية للعمال والفلاحين، خصص لينين مؤسس الدولة من الوقت والفكر والجهد ما يسمح له بالنظر فى أمر المحافظة على وصيانة كل الآثار المعمارية الإسلامية، وعندما أبلغ بالوضع الذى آلت إليه ذات السمعة العالمية فى سمرقند، قرر على الفور تخصيص المال اللازم لإصلاحها وإعادتها إلى سابق عهدها، وصدر قرار الدولة السوفيتية فى 5 أكتوبر 1918 -أى بعد أقل من عام من الثورة- مطالباً بضرورة "المحافظة على، ودراسة، والتعريف الكامل للشعب بكنوز الفن والآثار".
وكانت تلك هى البداية نحو عمل جاد فى ترميم وصيانة جميع الآثار الإسلامية، وشهدت السنوات التالية إعادة قبور العديد من السلف الصالح إلى سابق عهدها مثل شاه زندا، وجور أمير، فى سمرقند، وقبر سانجارا فى تركمانيا وغيرها، وأعيد ترميم وافتتاح المدارس الإسلامية الشهيرة فى ميدان راغستان بسمرقند، عدا المدارس الأخرى مثل مدرسة أولوج بيك، ومدرسة مير عرب، ومدرسة باروخان وعديد آخر من الجوامع التاريخية مثل جامع كالان الشهير بمئذنته التى ترتفع خمسين متراً عن الأرض، وتذهب الأمور إلى أبعد من ذلك، إذ تقرر جمهورية أوزبكستان السوفيتية تحويل كامل مدينة حيفا بعديد جوامعها الجميلة ومدارسها إلى مدينة أثرية متكاملة، وتظل حتى اليوم عديد من الآثار المعمارية الإسلامية تحت رعاية الدولة التى تخصص لها مبالغ طائلة للمحافظة على تلك الآثار.
****
أما فى مجال إحياء التراث فلا تدخر الدولة جهداً، كما تبذل الإدارات الإسلامية للمسلمين قدر استطاعتها للمحافظة عليه وجعله فى الصورة التى يستطيع أن يستفيد منها كل المؤمنين، فلقد ثابرت الإدارة الدينية لمسلمى آسيا الوسطى وكازاخستان على جمع ودراسة أكثر المخطوطات وكتب السلف قيمة، سواء فى بلادها أو خارجها، فيما يتعلق بالتعاليم الإسلامية والشريعة، وتحتوى مكتبتها على 25,000 مجلد من الكتب، 2000 مخطوط يرجع بعضها إلى عهود سحيقة فى القدم، وأول ما تعتز به المكتبة هو نسخة من مصحف عثمان الذى يحتفظ به تحت الظروف الملائمة فى المتحف التاريخى لأكاديمية العلوم فى أوزبك كما سبق أن أشرنا.
ومن بين ما تحوى المكتبة المخطوط القديم لعبد الكريم بن خافازين أبو القاسم القشيرى فى شرح القرآن والمعروف بأسم "لطيف العشورات" والذى يرجع إلى القرن العاشر الميلادى (الرابع الهجرى)، وتعتز المكتبة بمجموعتها من المصاحف، ومن بينها ما يمثل مخطوطاً أوحد منذ قرون مضت حتى آخر طبعاته سواء ما صدر فى الأتحاد السوفييتى أو خارجه، وقد يشار من بين هذه المجموعة إلى مخطوط نادر للخطاط إسماعيل المبارك والذى كتبه عام 665 هجرية فى بخارى، والذى يتميز بحروفه الكبيرة، وبترجمته كلمة بكلمة إلى الفارسية، ومن ثم يعتبره الخبراء أقدم تراجم القرآن إلى لغة غير عربية، كما تحوى المكتبة نسخاً من القرآن باللغات الإنجليزية واليابانية وغيرها.
وبالإضافة إلى (لطيف العشورات) تحوى المكتبة التفسير المعروف لمحمود الزمخشرى، والمسمى "تفسير الكشاف" والذى يرجع إلى القرن الحادى عشر الميلادى (الخامس الهجرى)، ولدى المكتبة واحد من أقدم المخطوطات عن هذا الكتاب منذ القرن الثالث عشر، وكذلك تحتفظ بكتاب "تفسير بحر الأمواج" الذى كتبه القاضى شاه أبو الدين هندوستانى الذى توفى عام 848 ميلادية، وغيرها العديد من المخطوطات.
****
 تطوير الجمهوريات الإسلامية
كانت جماهير المسلمين تعانى فيما قبل الثورة عن نوعين من الاستغلال، أحدهما عن طريق القيصرية وسندها الكنيسة الأورثوذكسية، والثانى هم الأمراء والبكوات والخانات الحليون والقلة التى تعلقت بركابهم من رجال الدين المسلمين، ولذلك فقد بقيت على درجة بعيدة من التأخير سواء فى تطورها الاقتصادى أو الاجتماعى أو السياسى، ويكفى أن تقوم بينهم -وحالتهم على هذا الوضع- ثورة اشتراكية تزيل سيطرة الإقطاع ورأس المال سواء الخارجى عنها أو الداخلى من بينها، وتحرر الإنسان فى حياته الإنتاجية، لندرك كم سيكون أثرها على الجماهير التى طال استغلالها.
وإذا حاولنا هنا أن نفاضل بين الوضع فيما قبل الثورة، وما تطور إليه بعدها لا تسع بنا المجال، ودخلنا فى تقييم إنجازات الثورة الاشتراكية -كمثال لأى ثورة مماثلة- فى مقابل المجتمع الرأسمالى شبة الاقطاعى الذى كان يعيشه المسلمون، وهو ما قد يخرج بنا عن رسالة هذا الكتاب، ولكن يكفى أن نذكر فى هذا المجال أن التطور الذى شمل الاتحاد السوفييتى بجمهورياته المختلفه سار بنفس الخطى فى الجمهوريات الإسلامية بحيث قد أصبح فى كل منها القاعدة الصناعية الضخمة التى تتفق مع ثروات البيئة المحيطة، والزراعة الحديثة المميكنه القائمة على الترشيد العلمى، والثروة الحيوانية التى تتضاعف كما ونوعاً على أسس من الدراسة والاختيار بين السلالات، واستصلاح الأراضى  الصحراوية الواسعة التى تتميز بها جمهوريات آسيا الوسطى، بل وتحويل البحيرات الصناعية، إلى آخر مختلف الانجازات التى نقلت الاتحاد السوفييتى عامة من دولة متأخرة عن كل أوربا تقريباً فيما قبل الثورة، إلى ثانى قوة صناعية وتكنولوجية فى العالم، بل وتفوق أمريكا فى العديد من المجالات، لقد نالت الجمهوريات الإسلامية نصيبها الأوفى من التقدم على جبهة التطور، الأمر الذى ولا شك ينعكس أثره على حياة الجماهير، وبالتالى لابد أن يكسبها.
وربما لو اتجه بحثنا إلى بعض الجوانب فى الحياة اليومية للمسلمين وفى نوعية وكم الخدمات التى تقدم لهم، لأمكن أن نستنتج منها صورة موقف الثورة الاشتراكية منها.
لقد كانت نسبة التعليم فى جمهوريات المسلمين تتراوح بين 0,5 إلى 2%، ومع هذا لقد تم منذ سنوات عديدة القضاء على الأمية قضاءاً تاماً، بل وتتفاخر الأسر الإسلامية حالياً بأنه لا يمكن أن توجد أسرة واحدة تخلو من شخص ذو تعليم عال أو متوسط، إن كل طفل ومنذ أن يبلغ السابعة من عمره ينخرط فى سلك التعليم الإلزامى الشامل لمدة سبع سنوات ليقف على عتبه المرحلة الثانوية، وإن كانت لدى أى منهم الرغبة والقدرة لتطوير المعارف والاتجاه إلى التخصص فأنه يستطيع الانخراط فى مؤسسة دراسية عليا أو متوسطة، فى معهد أو جامعه، حيث تقدم الدولة المنح الدراسية لطلاب هذه المستويات أثناء الدراسة، وتؤمن مساكن للغرباء منهم، كما يتمتعون ببطاقات مواصلات مخفضه، وليس غريباً بعد ذلك أن يؤدى تطور التعليم فى كل هذه الجمهوريات إلى أن تتمتع الآن كل منها بجامعة على الأقل، وأكاديمية خاصة للعلوم، مع انتشار واسع لمعاهد ومؤسسات البحث العلمى.
لقد مضى زمن طويل منذ كانت الأغلبية الساحقة من أبناء المسلمين يقضون حياتهم إما أشباه عبيد لدى ملاك أو رعاه لقطعان هزيلة تجوب الصحراء بحثاً عن قليل الكلأ والمرعى، أو منكبون بحكم كبر السن والضعف على عدد من الحرف المحلية، التى وإن كانت لها شهرتها، إلا أنها لم تكن تؤتى ما يقيم أود الحياة، لقد مضى ذلك الزمن وأصبح فى حكم التاريخ البعيد، وبدلا منه أصبحت الصحف المحلية، وملصقات الشوارع والميادين تعج بالإعلانات عن فرص عمل جديدة، والحاجة إلى تخصصات علمية مختلفة، بحيث قد تغير تماماً شكل العمل والإنتاج وانتقل من صورة القرون الوسطى إلى أعلى مستويات القرن العشرين، ويسير مع إتاحة فرص العمل المتقدمة والتى قضت على كل الصور القديمة، تمتع الجماهير بمختلف القوانين الاجتماعية، من كفالة حق العمل لكل مواطن، والضمان المادى عند العجز، أو عدم القدرة على العمل، وأثناء المرض، وحق الأجازة المدفوعه الأجر، والعلاج الطبى الكامل.
أما فى شأن الرعاية الصحية للمواطنين، فكأنما لم تكن فى الحسبان لدى الحكم القيصرى، فأضافة إلى الارتفاع الفاحش لتكلفة العلاج لم يكن موجوداً فى جمهورية تركمانستان بمساحتها البالغة 488000 كيلومتر مربع، والتى تساوى فى مساحتها كلا من بريطانيا وألمانيا الغربية مجتمعتين أكثر من 56 طبيباً، 139 مساعداً طبياً، كما لم يكن فى أوزبكستان التى يقطنها 4,500,000 نسمة أكثر من 128 طبيباً ويمكن قياس باقى مناطق المسلمين، على هذا الأساس والنتيجة كانت بالطبع انتشار الأوبئة بحيث تبلغ حصيلتها عشرات الآلاف من السكان فى كل عام، وارتفاع نسبة وفيات الأطفال إلى ثلث عددهم خلال السنة الأولى من حياتهم، وقد تطورت أوضاع تلك المناطق إلى ما يغاير تلك الصورة تماماً، فسكان تركمانيا الذين يبلغون 2,000,000 حالياً يرعى شئونهم الطبية 4400 طبيباً بما يعنى أن هناك 21,5 طبيب لكل 10,000 من السكان، أما فى أوزبكستان وحيث يبلغ تعداد السكان 12 مليوناً، فهناك 20,000 طبيب، وأكثر من 60,000 مساعد طبى بما يعنى أن هناك فى المتوسط طبيباً لكل 600 من المواطنين، كما يوجد بتلك الجمهورية 3 معاهد طبية عليا، ومعهد صيدلى عالى، 18 مدارس طبية ثانوية تتولى تموين الجمهورية باحتياجاتها من تلك التخصصات، والنتيجة أن لدى جمهوريات الشرق السوفييتى الآن من الأطباء لكل ألف من السكان عدداً أكبر مما يوجد فى أكثر بلاد العالم الرأسمالى تقدماً، وإذا ما أضيف إلى ذلك كون العلاج مجانياً فى جميع مستوياته ومراحله، أمكن إدراك التغير الشامل الذى تم ناطق المسلمين التى لم تكن تجد الطبيب، وإن وجدته فلن يتوفر لجماهيرها أجره أو أجر العلاج، مما جعلها فيما قبل الثورة الاشتراكية نهباً لأهل الدجل والشعوذة وأدعياء الطب.
****
وإذا كان التقدم يقاس أحياناً بمدى ما يصل إليه فى حياة المرأة، فان الصورة هنا كذلك تعكس طفرة كبرى بين أوساط المسلمين، ففى جمهورية التتار الاشتراكية السوفيتية والتى لم يكن بها عملياً قبل الثورة الاشتراكية إمرأة واحدة ذات تعليم ثانوى، ناهيك بالتعليم العالى، تصل نسبة المرأة بين الأخصائيين حالياً إلى 60 % فى المتوسط، تجدهن موزعات بنسبة 25% بين المهندسين، 38% بين أخصائى الزراعة وتربية الحيوان والطب البيطرى، 71,3 فى التعليم، 88,4% فى الرعاية الصحية، كما تحتل المرأة 35% من بين مقاعد ممثلى الجمهورية فى مجلس السوفييت الأعلى، وتصل نسبتها إلى نصف ال 28,598 مقعداً فى أجهزة الحكم المحلى وممثلى سوفيتات جماهير العاملين.
وفى جمهورية تركمانيا، وحيث لم يكن ممكناً أن توجد قبل الثورة الاشتراكية أمرأة واحدة متعلمة، وهناك عشرات الألوف اليوم يعملن بنجاح فى مختلف نواحى النشاط الإقتصادى، هناك حوالى 40,000 منهن حصلن على تعليم عالى أو ثانوى متخصص، يمثلن 44% من عدد الأخصائيين بالجمهورية، وهناك أكثر من 3000 إمرأة فى مناصب إدارية عليا فى المصانع والمزارع الجماعية والمكاتب، وفى عام 1967 كان هناك تسعة منهن فى مناصب الوزراء ووكلائهم، كما لهن -بالانتخابات طبعا- ثلث مقاعد السوفيتات المحلية.
وليس متصوراً أن تصل المرأة إلى مثل هذه الدرجة من التقدم إلا إذا كان نفس القدر وأكثر قد تحقق للرجال بالطبع، وإلا إذا كانت الدولة قد وفرت كل الرعاية اللازمة لأبنائهن فى دور الحضانة التى تتسع بالفعل لجميع أبناء النساء العاملات فى كل المواقع وتدفع الدولة معظم تكاليفها، وإلا كانت الحياة المنزلية قد ارتقت إلى مستوى الاعتماد على وسائل الحياة الحديثة خفضاً للجهد فى المنزل على الأم العاملة.
هذا ولم يكن اضطهاد المرأة فيما قبل الثورة الاشتراكية مقصوراً على إبقائها فى دائرة الجهل المطبق وغيرها من مظاهر المجتمع المتخلف، بل كان يمتد إلى ممارستها للعبادة الدينية ذاتها، بحيث لم يكن متاحاً لهن أن يغشين المساجد أو أن يستمعن للدروس والمواعظ الدينية، أما اليوم فأنه يمكن أن تشاهد أعداد كبيرة منهم فى المساجد فى موسكو، وليننجراد، وكوييشيف، وأورنبرج، وتاتاريا، وبشكيريا، وأذربيخان، وكازاخستان، وأوزبكستان ومناطق أخرى حيث يؤدين الصلاة ويستمعن إلى دروس الدين إما فى غرف مخصصة لهن بالمساجد، أو فى أجزاء منها منفصلة عن باقى مساحة الجامع.
****
وبعــــد:
فأن تاريخ المسلمين فى جمهوريات الاتحاد السوفييتى مع الثورة الاشتراكية شاهد انتقالا جذرياً من ظروف ما قبل الثورة إلى أوضاع جديدة تماماً بعدها، من اضطهاد للعقيدة، وعدم الحرية فى ممارستها، وعدم إمكان الدعوة لها، إلى اعتبار حرية العقيدة ضمانه أساسية للحياة، وإتاحة كل الحرية لممارستها، والدعوة لها.
ومن سيطرة لأحد الأديان على باقيها، تسخر الدولة لخدمته، وتشكل القوانين بما يلائمة، إلى إزالة هذه السيطرة بتاتاً، وتساو بين الأديان جميعاً، ومن عنت وإرهاق فى التعيين فى الوظائف أو القبول بالمدارس إن لم يكن الفرد من اتباع العقيدة المسيطرة، إلى وضع لا يسأل فيه المواطن عن عقيدته على اعتبار أن ذلك أمر يخصه تماماً، وتثبيت القواعد التى تحرم أى تفرقة فى المعاملة أو المزايا على أساس العقيدة.
ومن أوضاع تردت فيها أماكن العبادة، ومقار ممارسة الحياة الروحية، وتداعى الكثير منها حتى تكاد تذروه الرياح، إلى ترميم لجميع الآثار والمعابد دون استثناء، واستعادة لكل المقدسات عند المسلمين.
ومن كل ظروف الحياة فى مجتمع متخلف بما يعنية ذلك من انخفاض مستوى المعيشة إلى أقل من الكفاف، وأمية متفشية، ورعاية صحية تكاد تكون معدومة، وضمانات اجتماعية ضد البطالة وأخطار العجز وعند الشيخوخة لا يسمع القوم بها ناهيك عن ممارستها، ومعدلات لوفيات الأطفال من بين أعلاها فى العالم، وحياة ثقافية معدومة تماماً، وغيرها من كل مظاهر التخلف إلى كل مظاهر الحياة فى مجتمع حضارى متقدم بكل ما يعنية من صناعة متقدمة، وزراعة علمية، وثروة حيوانية نامية، وكل الضمانات ضد البطالة والمرض والعجز والشيخوخة، وثقافة تعنى بالقديم وتحيية وتكسب من الجديد كل مظاهره سواء فى المسرح والسينما والفنون التشكيلية والفولكورية -وهكذا.
وإذا كان ذلك ما أتت به الثورة -وهو إذا شئنا الحصر كان صورة صاروخية للتقدم -وكان ذلك هو التغير الذى حدث فى حياة المسلمين الروحية والمادية، فأن الإجابة على أى تساؤلات سواء فى علاقاتهم بالثورة والمجتمع الاشتراكى، أو فى حرية العقيدة والممارسة أو غيرها، تصبح معروفة على الفور وليست بحاجة إلى إيضاح.
ويصبح أهم ما فى الصورة هو صدق ذلك النفر من زعماء المسلمين الذى رفع صوته منذ أوائل القرن الحالى بأنه لا يمكن أن يكون هناك تعارض بين الدين والاشتراكية بل أن تعاليمها من عدالة اجتماعية ومساواة بين الناس وتطوير الحياة البشرية هو مما لا يمكن أن يدعو الدين لغيره. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

ملحوظة: يمكن لأعضاء المدونة فقط إرسال تعليق.